ذكرنا الزميل الصديق ناصر الأمجد بالفنّان الكبير والمستشرق الحجة ناصر الدين ديني، هذا المسلم العامل بأتم معنى الكلمة (*). ونستعرض في الحلقة الثانية حول الكتاب الذي خصصه لحياة وأفكار ديني عند جوانب ثلاثة من هذه الحياة الغنية: الفنّان والمستشرق والناشط المدني. من الناحية الإبداعية، يعتبر محمد راسم صديقه ديني أحسن من وظف ريشته، لتشخيص الروح العربية في مختلف تجلياتها. وهو في نظر الحاكم العام “بورد” صاحب احتفالية الذكرى المئوية لإحتلال الجزائر الفنّان الذي كان انتاجه منسجما تماما، مع حياته وطريقة تفكيره. ومن ناحية نشاط ديني المدني، يبدو قريبا من الوطنية في إدانته المطلقة للظاهرة الإستعمارية، كما عاشها في الجزائر خاصة.. وفي اعتقاده الراسخ بعدم قابلية نظام الإحتلال للإصلاح في جوهره.. ومع ذلك نراه يعقد بعض الأمل على أحلام صديقه موريس فيوليت الإصلاحية، دون أن تنوم هذه الأحلام وعيه اليقظ الذي يدرك تماما، أن اللوبي الإستعماري القوي في كل من الجزائز وفرنسا قادر على نسف هذا البصيص من الأمل في أي لحظة. أما من ناحية الإستشراق، فيمكن اعتباره حجة، لأنه خبر الإسلام برانيا وجوانيا: برانيا، من خلال الإطلاع الواسع، واعتماد المصادر الأولى للإسلام جواينا، من خلال المعايشة والتجربة الشخصية، المشفوعة بالتأمل العميق في حياة الإنسان المسلم، عبر الواجهة الصحراوية الجزائرية على نحو خاص. “الريشة التي شخصت الروح العربية” يذيل الفنان ناصر الدين ديني مراسلاته بالعبارة التالية: “فنّان رسام في الحضارة الشرقية”، ويقصد بذلك على وجه الخصوص الحضارة العربية الإسلامية التي تبناها لباسا كذلك، لاسيما باتخاذ أحد رموزها آنذاك: الطربوش العثماني المغاربي. الموضوع الغالب في لوحات هذا “الفنان الظاهرة”، هي الحياة البدوية الصحراوية في جوانبها البرانية والجوانية. وتعتبر واحة بوسعادة بوابته المتميزة نحو هذه الحياة التي أحبها إلى حدّ الذوبان التام فيها. يقول عنه ناقد صحفي عام 1912: يكتشف المتأمل في فنّه، أنه مولع بالإسلام، منسلخ عن أوروبيته، منغمس في الحياة العربية التي وجد فيها أحلامه، فغيرت عقليته، بل ابتلعته وشرح ذلك بإسهاب الحاكم العام “بورد”، في تأبينية الفنّان الفقيد أوائل يناير 1930. يتساءل بورد عن اختيار بوسعادة فيقول “ألا تلخص هذه الواحة الصغيرة من زواية مزاج ديني المرهف كل ما يتمنى أن يلقاه عاشق متيم بالجزائر؟”. وبخصوص التزاوج الفني مع المكان والزمان، يتساءل مرة أخرى “فهل سبق أن رأينا فنّانا يمزج انتاجه تماما مع حياته وطريقة تفكيره؟ إنه توازن متناغم نادر.. تناغم تمكن الفقيد من تحقيقه بشكل تام. وهو ما سيبرز معنى لوحاته وبعدها الحقيقي. وبرأي الفنان محمد راسم الذي كانت تربطه بديني صداقة حميمية “أن أهم ما يميزه دقة التعبير عن الحالات النفسية المختلفة... وهو أحسن من درس الروح العربية وفهمهما الفهم الصحيح، واستطاع تشخيصها بالريشة والألوان أحق تشخيص”. وكان المفكر مالك بن نبي، من المهتمين بديني فنّانا وتجربة حياة، ويقول بشأنه “كانت في حياته الخاصة جوانب طافحة بالألم، تترجم مأساة عصره فخلف الأشكال والألوان تكمن الحقيقة المرة للزمن الإستعماري، لقد فاضت مشاعر الفنّان بهذه الحقيقة، واكتست مظهرين: بؤسا لا مثيل له، وسكينة لا حدود لها.. وكلاهما استأثر به، فجعلا منه مؤمنا مكافحا”. عاش ديني تجربة مرة مع قومه، بسبب اعتناق الإسلام عشية الحرب العالمية الأولى، عاش اللاتسامح الذي تتميز به النظرة العنصرية الحاقدة، تجاه العالم العربي الإسلامي خاصة، لذا أعقب الإهتمام المتميز بلوحاته الأولى، تجاهل ومقاطعة، ما عدا استثناءات نادرة سبقت الإعتبارات الفنية على الدوافع الدينية أو العنصرية. وبدأت المقاطعة من المؤسسات الفنية العمومية، بما في ذلك متحف الفنون الجميلة بالجزائر. ويلخص نزعة اللاتسامح تلك محمد راسم بقوله “كان إسلام ديني الدافع الأول لبعض الذين انتقدوا أعماله”. وذهب المتطرفون في الحقد على الحضارة الإسلامية إلى درجة وضع هذا الفنّان الكبير في خانة “الخائن المرتد عن الحضارة الغربية”! الإستعمار.. تلكم “الظاهر المقرفة”.. كان الفنّان ناصر الدين ديني ناشطا مدنيا كما سبقت الإشارة، ومن الطبيعي أن تكون له أراؤه ومواقفه الدينية والسياسية.. على الصعيد الديني اختار منطلقه للوهلة الأولى، باعتناق المذهب الحنفي الذي يعد على قدر من الإنفتاح ورحابة الرأي، قياسا بالمذهب المالكي مثلا.. فبخصوص فن الرسم يجاري ديني الرأي القائل بأن الإسلام إنما حرم المعبود من النصب والتماثيل.. وأن لا علاقة لهذا التحريم بالرسوم الفنية، للأشخاص والمناظر الطبيعية والخيالية منها.. ويميز على الصعيد المالي بين الربا والقروض البنكية مثلا.. على نهج الإمام محمد عبده الذي يعتبر إيداع الأموال في البنوك بفائدة، ضربا من الشراكة السليمة بين أرباب الأعمال.. فالفنان يرى في هذا الصدد، ضرورة تجنب الخلط بين الربا والمعاملات المصرفية، لأن القروض أصبحت مقوما أساسيا في انجاز المشاريع الهامة، فضلا عما تشكله البنوك من سلطة فعلية عبر العالم.. وعلى الصعيد السياسي، يبدو إصلاحيا بخصوص الأوضاع السائدة في البلاد، لكن من باب الواقعية وبدون أوهام.. فقد هلل لمشاريع الحاكم العام موريس فيوليت، لكنه كان واثقا من أنها ستظل حبرا على ورق، بسبب نفوذ “جحافل المتطرفين بكل من الجزائروفرنسا”. كان الفنّان ضمن الأقلية القليلة من الفرنسيين الذين يحاولون تثمين تحضيات الجزائريين أثناء الحرب العالمية الأولى، طبعا في الحصول على بعض الإصلاحات الجريئة.. وكان يأمل من ساسة فرنسا قدرا من الذكاء، لإستغلال الذكرى المئوية للإحتلال في الإتجاه المرغوب.. لكنه في قرارات نفسه كان يدرك أن مثل هذه الآمال من الصعب تحقيقها، وكان أكثر ما يخشاه في أواخر أيامه أن يدفع المتطرفون من خلال الإحتفال بهذه الذكرى باتجاه تعميق الهوة الفاصلة بين الجزائر والمستوطنين.. أما في موقفه من الظاهرة الإستعمارية في الجزائر، فهو يبدو قريبا من الوطنيين، إذ يدين الظاهرة إدانة قاطعة..وقد عبر عن ذلك سنة 1917 في رسالة إلى شقيقته جان رولينس بنوع من القرف قائلا “لقد آثرت الإنعزال والإبتعاد عن هذا التعفن الإستعماري القذر، الذي وجدت نفسي مرغما على الجيش فيه.. وإن كنت أجدني أحيانا ملزما بإشهار الخنجر في وجه هذا الخزي الإستعماري”. وعلى غرار الوطنيين يرى أن نظام الإحتلال بالجزائر ميؤوس من إصلاحه، وأن تمادي فرنسا في سياستها الإستعمارية، يمكن أن يفقدها إفريقيا كلها.. وفي مطلع العشرينيات من القرن الماضي، عارض الحرب الذي تشنها فرنسا على الريف المراكشي، خشية أن تؤدي إلى اتساع الشرخ وتفاقم الأحقاد بين بلاده والمسلمين عامة، كما عارض مشروع المارشال أليوتي ممثل الحماية الفرنسية بالمغرب، الذي كان يسعى لإقامة نوع من الخلافة المغاربية عاصمتها مراكش، لتعويض الخلافة العثمانية المتهاوية في اسطنبول ونظرا لما آلت إليه حالة الخلاف في أواخر عهدها، جنح ديني إلى التعاطف أكثر، مع كمال أتاتورك الذي ما لبثت أن أجهز عليها.. انبهار بسماحة الإسلام أسلم الفنّان ألفونس إيتيان ديني سنة 1913، بعد أن خبر حياة المسلم بالواجهة الصحراوية الجزائرية معايشة فترة طويلة. وفي 3 نوفمبر 1927 (جمادى الأولى عام 1345ه) بدا له أن يشهر إسلامه على المذهب الحنفي، وتم ذلك أثناء حفل أقيم بالجامع الجديد، أمام مفتي الحنفية الشيخ محمد بوڤندورة، بحضور كوكبة من رجال الدين والعلم والمال.. وعادت مهمة تقديم الفنّان المسلم بالمناسبة، إلى الشيخ أحمد توفيق المدني من رواد الحركة الإصلاحية بالجزائر. وتلا ذلك حفل تكريم بنادي الترقي، وقد كتب عن الحفلين في الشهاب (عدد نوفمبر 1927) الشيخ محمد العاصم مفتي الحنفية لاحقا.. كانت هذه الخطوة تتويجا لحياة مسلم عامل، ترك لنا عددا من المؤلفات الهامة، دفاعا عن الإسلام والحضارة الإسلامية.. مؤلفات تجعل منه مستشرقا بأتم معنى الكلمة: مستشرق علم وتجربة، بعيدا عن الأغراض الإستعمارية، وما يصاحبها من تعصب ديني، واحتقار لحضارات الأمم الأخرى.. نقف باختصار عند ثلاثة من مؤلفاته الفكرية: حياة محمد (ص)، الشرق كما يراه الغرب، أحج إلى بيت الله الحرام.. 1 “حياة محمد” وقد اعتبره الشيخ توفيق المدني “سيرة حقيقية، يقرأها المسيحي المتعصب فلا يملك نفسه عن الاعتراف بقيمة الدين الإسلامي، وبأن محمد لم يكن إلا رحمة للعالمين، لا كما يصوره غلاة المتعصبين”... ولا شك أن ديني قد انبهر بتسامح الإسلام الذي يجعل من الإيمان بالرسل واحدا من أركان إيمان المسلم، خلافا لليهودية والنصرانية اللتين لا تقران بنبوة محمد (ص) .. 2 -”الشرق كما يراه الغرب”، وقد رد فيه- بالعلم والتجربة - على أدعياء الإستشراق، لا سيما الذين انتقدوا اعتماده الكبير على المصادر الإسلامية الأصلية... وقد رد على هؤلاء متهكما: “يالهم من نقاد مساكين ! يريدونني أن أتجنب الحقائق الثابتة التي تركها لنا العلماء المسلمون، لأتبع المسالك الوعرة، والمضايق التي دخل فيها أدعياء كتابة التاريخ في أوروبا”.. ويخص بالذكر من هؤلاء الأدعياء الأب “لامونس” الذي ابتدع منهجا غريب في تناول حياة محمد (ص): منهج “إن عكست أصبحت!” فقد حول باختصار، كل المحامد التي تنسب لرسول الإسلام إلى مثالب”! 3 - “الحج إلى بيت الله الحرام”، حرص الفنان المسلم على معايشة تجربة الحج كعامة الحجيج الجزائريين، وكان عددهم في موسم 1929 نحو 1200، فعل ذلك رغم تقدمه في السن نسبيا (68 سنة) وضعف حالته الصحية.. وما أن عاد إلى بوسعادة أواخر يونيو من نفس السنة، حتى أخذ يسابق الأجل لتسجيل ملاحظاته وتجربته لزيارة البقاع المقدسة، عاقدا العزم على إصدارها في كتاب، بهدف التعريف الدقيق بهذا الركن من أركان الإسلام الذي كثيرا ما تحاك حوله الخرافات والأساطير من الحاقدين على الإسلام بصفة عامة.... استطاع فعلا انجاز مؤلفه تحريرا ورسما، وفي منتصف نوفمبر سافر إلى باريس ليكون قريبا من الناشر “أشات” .. وهناك ازدادت حالته الصحية تدهورا، إلى أن سقط ذات يوم أمام منزله ... وكانت سقطة أخيرة، انتقل إثرها إلى جوار ربه مساء 24 ديسمبر الموالي. وقد دفن في بوسعادة في ضريح بناه سلفا بجوار عائلته الجزائرية، عائلة بن ابراهم وبن حيدش... وقد أقيمت له بالمناسبة تأبينية تليق بمقامه، تداول على منصتها العديد من الشيوخ، يتقدمهم شيخ زاوية الهامل مصطفى القاسمي، فضلا عن الوالي العام بورد.. الذي ختم كلمته قائلا: “رسام يدخل إلى كل مكان، ويرى كل شيء، لأنه بكل بساطة رجل يحبه الجميع”.. وتختم هذه العجالة حول هذا الفنّان الكبير بكلمتين للشيخ توفيق المدني والمفكر مالك بن نبي... يقول الأول عنه: “كان مسلما لا يكتفي بأن يحشر في زمرة المسلمين، بل كان المسلم العامل بالقلم واللسان في سبيل الله والإسلام”... ويقول الثاني في وقفة تأمل أمام ضريح الفنّان الراحل: “كان الإستعمار دائما يستهدف في مخططاته مفصل صمود الإنسان الجزائري، المتمثل في ذلك الإيمان الذي يمنحه قوة تحمل بؤسه بأباء... وكانت جهود ديني - بريشته وقلمه - تصب كلها في مجرى دعم هذا الإيمان والصمود”... وقد ارتكب بذلك جرما لا يغتفر في نظر الإستعمار..ويخشى بن نبي - عام 1968- أ يكون تجاهل هذا الفنّان الكبير من جزائر بداية الإستقلال، “ضربا من الإستمرار لموقف الإستعمارمنه”! (*) طالع الحلقة الأولى، الفجر، عدد 25/9/2013