رفعت المجاهدة الزهرة ضريف بيطاط أخيرا (*) النقاب عن حلقة هامة، من حلقات ملحمة الفداء في قصبة الجزائر التي اعتصمت بها وعددا من رفيقاتها، غداة نقل الحرب إلى المدينة الأوروبية مساء 30 سبتمبر 1956. وأفادتنا بكم هام من المعلومات حول عدد من أبطال وبطلات هذه الملحمة الشعبية، بدءا بالقائد الشهيد محمد العربي بن مهيدي، والشهداء الشريف ذبيح وعلي عمار (لابوانت) وحاجي عثماني، فضلا عن الشهيدة حسيبة بن بوعلي... وغيرهم.. فقد اكتشفنا عبر هذه الشهادة الهامة مثلا أن علي لابوانت كان محافظا سياسيا بامتياز في اللحظات الحرجة، ليتقن استعمال الخطاب في محله، إلى جانب اتقانه استعمال سلاحه الرشاش، وكذلك جميلة بوحيرد التي كانت تلهب حماس أخواتها في المدينة القديمة.. وحاولت الشاهدة أن تجيب بالمناسبة عن سؤال محير: لماذا لم تتعرض رفقة المسؤول العسكري لمنطقة الجزائر السعدي ياسف غداة اعتقالها فجر 24 سبتمبر 1957 إلى التعذيب وإلى القتل بدون محاكمة، كما حدث ذلك مع عدد لا يحصى من المسؤولين والمقاتلين؟ وجعلتنا الشاهدة كذلك نعرف بعض جوانب الوضعية الإستعمارية التي نختصرها في صورتين: صورة البؤس الذي شاهدته بعينها ذات يوم مثلج من ديسمبر 1944 وهي ما تزال صبية: لقد رأت رفقة شقيقها عبد القادر مواطنا في سوق تيسمسيلت، حول الحفاء المزمن أسفل قديمه إلى خف طبيعي! صورة السنة الأولى من كلية الحقوق خلال الموسم الجامعي 1954 1955 التي لم تستقبل أكثر من 6 طلبة جزائريين من مجموع 200 طالب! “علينا أن نختار معسكرنا!” ولدت الزهرة ضريف بتيسمسيلت في 28 ديسمبر 1935، وكان والدها أحمد قاضيا بنفس البلدة. وبعد أن ختمت دراستها الإبتدائية بمسقط رأسها، انتقلت إلى العاصمة لمواصلة مشوارها التربوي كتلميذة داخلية، بثانوية “فرومنتان” (ديكارت بوعمامة) الخاصة آنذاك ببنات المستوطنين. بهذه الثانوية صادفت زميلة تدعى سامية الأخضري بنت قاض مثلها، فنشأت بينهما علاقة صداقة حميمية وعائلية، فقد كانت كثير ما ترافق صديقتها إلى مسكنها ببولوغين.. وتقول الزهرة عن هذه العلاقة، أنها ساهمت في تكوينها ثقافيا وسياسيا بفضل القاضي الأخضري، وكذلك إبنه الأكبر مالك الذي جعلها وشقيقته سامية، تكتشفان السينما والمسرح ابتداء من الموسم الدراسي 53 / 1954. وكانت قبل ذلك، على قدر من الوعي الوطني الخام بفضل متابعة نشاط أشقائها في الكشافة الإسلامية التي كان من روادها بتيسمسيلت محمد دزيري وأرزقي آيت حمدوش. وفي الموسم الدراسي القادم كان عليها أن تلتحق بالجامعة، بعد أن حصلت على شهادة البكالوريا في يونيو.. كان افتتاح السنة الجامعية سنة 54 / 1955 في ديسمبر، لذا عاشت الإعلان عن ثورة فاتح نوفمبر بمسقط رأسها، من خلال مطالعة صحافة 2 من نفس الشهر، وكذلك عبر الإعتقالات الأولى التي ضربت المناضلين الوطنيين المعروفين، أمثال دزيري وبولوفة وزميتي.. وردد المجتمع النسائي بالناحية الأصداء الأولى للثورة بطريقته الخاصة: تناقل وتضخيم “نبوءة” شيخ صالح، ظهر بالشلف حيث أشار بضرورة الإستعداد للتحولات العميقة القادمة.. وكان تناقل هذه النبوءة يتم أكثره خلال الزيارات الأسبوعية لضريح سيدي بن تمرة.. وفي ديسمبر الموالي التحقت بالعاصمة، لتقيم بجناح الإناث من حي بن عكنون الجامعي.. وكانت قبل ذلك، قد سجلت نفسها في السنة الأولى من كلية الحقوق مع نحو 200 طالب، لم يكن من بينهم غير 6 جزائريين: هي وصديقتها سامية، فضلا عن 4 طلبة من بينهم لخضر براهيمي اجتازت الزهرة وسامية السنة الجامعية الأولى بامتياز وسلام، فاستحقت لذلك مكافأة من والدها الذي اصطحبها معه خلال العطلة الصيفية إلى مصطاف “لوشون” بجبال ألبرانس (جنوبفرنسا). طبعا لم تكن طوال هذه السنة غريبة عن الثورة التي كانت المحيط يشيع أصداءها بمختلف الوسائل والأساليب.. فقد كانت مثلا من خلال التردد على الحمام التقليدي، تسمع أول مرة كلمات مشحونة بالدلالات الجديدة التي تنبأ بها الرجل الصالح بالشلف، مثل “شهداء”، “مجاهدين”.. وأكثر من ذلك سعت إلى الإتصال بجبهة التحرير الوطني في العاصمة، سعت حسب اجتهادها الخاص بدون مساعدة من أحد.. فقد تعرفت صدفة على محمود بوعياد العامل بالمكتبة الوطنية التي كانت آنذاك بالقصبة في قصر مصطفى باشا فتوسمت فيه المناضل الذي يمكن أن يهديها إلى طريق “النظام”.. لكنها عندما كاشفته في الموضوع، أرشدها إلى مناضلات مرموقات مثل نفيسة حمود (لاليام) وميمي عيسى (شنتوف)، فظنت أول وهلة أنه يرشدها إلى طريق الأعمال الخيرية، بينما كانت تبحث هي عن طريق الثورة باختصار! وكانت قبل ذلك قد عاشت موقفا جديدا كل الجدة في بيت صديقتها سامية.. فقد كان القاضي الأخضري يشيع في عائلته خطابا معتدلا، يحاول به إبعاد أبنائه عن طريق “المغامرة الثورية” قدر المستطاع. لاحظت زوجته زهور ذلك، فثارت فيه ذات يوم قائلة “علينا أن نتخذ موقفا، ونختار معسكرنا”!.. وغداة عودتها من مصطاف “لوشون”، كان الوضع بالجزائر قد تطور بشكل مفاجئ، جراء أحداث 20 أوت 1955.. لمست ذلك من خلال مقياس حرارة شقيقها الأصغر عبد القادر الذي بدأ يتحدث صراحة لغة القطيعة: “هم... ونحن” (المستوطنون والجزائريون).. اليوم ثورة.. وغدا دراسة عادت طالبة الحقوق الزهرة ضريف إلى الجامعة بداية الموسم 55 / 1956، بذهنية أن الثورة أصبحت أولى من الدراسة.. علمت آنذان “النظام” باستعدادها هذا، فكلفت طالب الآداب الفرنسية بوعلام أوصديق (1) بالإتصال بها.. تم ذلك على الأرجح مطلع 1956، في أجواء التوتر الذي ساد جامعة الجزائر، جراء اعتقال أربعة من قادة فرع اتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين (2)، وإضراب 20 يناير 1956 احتجاجا على اعتقالهم، وعلى امتداد القمع والعنف إلى الحرم الجامعي بصفة عامة.. سأل مبعوث، النظام بالعاصمة الطالبة المتحمسة في ختام لقائه الثاني بها: بمن تريدين الإلتحاق؟ الحركة المصالية؟ أم جبهة التحرير؟ أم المقاتلون الشيوعيون؟ طبعا اختارت الجبهة بدون تردد، وكان اتصال العمل الأولى بعد 10 أيام، بواسطة علي (ولد) الهادي المدعو كمال.. ولقيت بداية اتصال الزهرة وصديقتها سامية بنظام الفداء في العاصمة تشجيعا خاصا من السيدة زهور والدة سامية: زغرودة صادقة لمشاركة الإثنتين في “استرجاع حق أمة محمد”، حسب لغة الشعب في تلك الفترة كانت بداية النشاط في شبكات الإسناد شبه المدنية، وكانت المهام لذلك سياسة اجتماعية قبل كل شيء: نقل رسائل وأظرفة إلى مسؤولي الشبكات، أو عائلات المعتقلين والشهداء بأحياء بلوزداد والعقيبة وسيدي امحمد، لتشمل بعد ذلك أحياء أخرى مثل ديار الشمس والمرادية وزغارة.. اتخذت الزهرة طبعا إسما حركيا (فريدة)، أسوة بصديقتها سامية (نبيلة).. وبعد نحو شهرين، كان لهما اتصال بمسؤول هام في حركة الفداء هو مصطفى فتال.. هذا الإتصال لم يدم طويلا، لأن المعني أسر أواخر أبريل 56، وقدمته صحافة الإحتلال بصفة “مسؤول العمل المسلح” بالعاصمة. فوجئت الصديقتان بهذا الإعتقال وبأهمية الأسير، وحزنتا لذلك حزنا مشوبا بالخوف عليه من التعذيب ومضاعفاته، لاسيما أن الرجل كان حينئذ جد نحيف، لكنهما شعرتا بالسعادة في نفس الوقت. لتأكد التحاقهما بالجناح المسلح لجبهة التحرير. بعد أقل من شهر، شن فرع العاصمة لاتحاد الطلبة إضربه الشهير، بدءا من 19 مايو وقد حضرت الصديقتان الإجتماع الحاسم بحي “روبرتصو” الجامعي (تليملي)، حيث تمت المصادقة على لائحة الإضراب بالتصفيق وبدون نقاش. إضطرت الفدائية الزهرة للعودة إلى مسقط رأسها بسبب الإضراب، وفي غيابها اتصل أوصديق بصديقتها سامية مجددا، ليؤكد لها تعيينهما في المجموعات الفدائية، ويعين لها عون الإتصال الجديد، وهو عبد الله كشيدة المدعو مراد، وكانت نقطة الإتصال عبارة عن ذكان متواضع في حي بولوغين. اتصلت سامية هاتفيا بالقاضي أحمد ضريف تستقدم إبنته إلى العاصمة، بدعوى أن الإضراب العام الذي شنه اتحاد الطلبة لا يعني الطالبات! هذه الحيلة لم تنطل على القاضي طبعا، ومع ذلك أخبر ابنته بفحوى المكالمة.. وقبل عودة الزهرة في 30 يوليو، تم استقبال سامية بمنزل آل بوحيرد في القصبة، بحضور قيادة الفداء ممثلة في ياسف وعلي “لابوانت” وعبد الغني مرسالي، ومعهم الملكلف بصنع القنابل في مخبر الأبيار رشيد كواش. أكد ياسف للفدائية بالمناسبة أن الفداء يعني الإستعداد للتضحية بالنفس، فقبلت ذلك بطيب خاطر مستأذنة فقط لإصطحاب والدتها عند الضرورة.. وتؤكد الزهرة أن ياسف قرر إشراكها ورفيقتها في العمل الفدرالي، بعد مجزرة إرهاب المستوطنين في 10 أوت بشارع “تاب” في القصبة والتي أدت إلى مقتل زهاء 100 شخص، أكثرهم من الأطفال ونسف مجموعة مساكن. اتهام شيوعية في عملية “ميلك بار”! كانت الزهرة ضريف ورفيقتها سامية الأخضري من أنصار نقل الحرب إلى الأحياء الأوروبية، بعد أن ظلت رحاها منذ فاتح نوفمبر 54 تدور في ميدان الأحياء الجزائرية وحدها.. لذا عندما دقت ساعت تنفيذ هذا القرار غداة مؤتمر الصومام، لم يجد السعدي ياسف ورفاقه أحسن منهما لتسجيده فضلا عن جميلة بوحيرد التي سبقتهما في الإلتحاق بالفداء، ونشطت مع مختار بوشافة قبل ياسف. في البداية وقع الإختيار على الأهداف التالية، وهي أماكن تتردد عليها عادة زبدة المستوطنين وأبنائهم في الجزائر الأوروبية: ميلك بار في ساحة بيجو (الأمير عبد القادر حاليا) وقد اختيرت له الزهرة. كفتيريا بشارع ميشلي (ديدوش) قبالة جامعة الجزائر، وقد اختيرت له سامية التي فضلت تنفيذ العملية رفقة والدتها زهور! مقر الخطوط الجوية الفرنسية بعمارة موريطانيا، وقد عينت له جميلة.. وتم توقيت القنابل لتنفجر تباعا كما يلي: ميلك بار على السادسة و25 د مساء، تليها “كفتيريا” في الدقيقة الثلاثين بعد السادسة ثم الخطوط الجوية بعد 5 دقائق انفجرت القنبلتان الأولى والثانية في موعدهما، مخلفتين خسائر مادية وبشرية هامة، فضلا عن انتقال الرعب إلى المدينة الأوروبية بعد الآن. لم تنفجر القنبلة الثالثة، لأن ساعتها توقفت عند الخامسة والدقيقة الثلاثين.. تم اكتشافها وحجزها، وهو أمر يشكل خطرا على حركة الفداء لما فيه من قرائن، يمكن أن تدل مصالح الأمن على الفاعلين.. رجعت الزهرة وسامية وأمها بسلام إلى بولوغين، بعد تنفيذ العمليتين بنجاح.. ونقلت الصحافة الإستعمارية في الغد نبأ ما حدث، محاولة بوضوح التقليل من شأنه وأثاره.. لكن الزهرة وأخواتها كن يدركن تماما مغزى نقل الحرب إلى المدينة الأوروبية.. أنه باختصار لا يقل أهمية، عما لو كانت القنابل استهدفت مدنا فرنسية مثل باريس وليون ومرسيليا. وصادق أن عاد من باريس السناتور الأخضري فزار شقيق القاضي في بولوغين.. ونقل إليه بالمناسبة رد الفعل الفرنسي على الساخن: إعلان تعبئة عامة لوقف العمليات الفدائية، مع الإشتباه في العناصر الشيوعية لخبرتها في ميدان المتفجرات.. هذا الإشتباه جسدته “ليكودالجي” ومثيلاتها في 3 أكتوبر، عندما بادرت بإلصاق عملية “ميلك بار” بالمناضلة ريموند بيشار.. أطلعت الزهرة على هذه التهمة الملفقة فذهلت أول وهلة، أمام صحافة تتهم الأبرياء بسهولة نادرة! ورغم عدم الإشتباه فيها وفي رفقيتها سامية، فقد قرر ياسف أن تلتحق بالقصبة لأسباب أمنية، ريثما يتأكد من عدم اكتشاف مصالح الأمن لأمرهما.. وهكذا نزلتا ضيفتين، على عائلة بالحفاف العريقة بالمدينة القديمة.. (*) صدرت أخيرا عن دار القصبة (1) طالع التعريف به في “الفجر” عدد الأربعاء الماضي (11 / 12 / 2013) (2) هم رشيد عمارة، محمد لونيس، مصطفى صابر، أحمد التاوتي.