رئيس الجمهورية يشدد على وجوب تطابق برامج المدارس الخاصة مع البرنامج الوطني للتربية الوطنية    رئيس الجمهورية يأمر بمتابعة حثيثة للوضعية الوبائية في الولايات الحدودية بأقصى الجنوب    رئيس الجمهورية يأمر برفع قيمة المنحة السياحية ومنحتي الحج والطلبة    العدوان الصهيوني: أكثر من 60 شهيدا في قصف مكثف للاحتلال على مناطق متفرقة من غزة    الجائزة الدولية الكبرى لانغولا: فوز أسامة عبد الله ميموني    سياحة صحراوية: الديوان الوطني الجزائري للسياحة يطلق حملة لترقية وجهة الساورة    صيد بحري: بداني يؤكد حرص قطاعه على تحسين الظروف المهنية والاجتماعية للصيادين    اللجنة الوطنية الصحراوية لحقوق الإنسان: حكم المحكمة الأوروبية "انتصار كبير" لكفاح الشعب الصحراوي    خلال تصفيات "كان" 2025 : بيتكوفيتش يسعى لتحقيق 3 أهداف في مباراتي توغو    إسقاط التطبيع واجب حتمي على كل الشعب    التوقيع على اتفاقية شراكة وتعاون بين جامعة غليزان والوكالة الوطنية لدعم وتطوير المقاولاتية    الجزائر تعرب عن قلقها العميق    ما حقيقة توقيف إيمان خليف؟    السيتي: محرز ساحر العرب    أوّل لقاء إعلامي للرئيس في العهدة الثانية    افتتاح مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي    تنظيم مسابقة وطنية لأحسن مرافعة    دعم عربي لغوتيريش    أسئلة سيواجهها المجتمع الدولي بعد أن ينقشع غبار الحرب    رئيس الجمهورية يترأس اجتماعا لمجلس الوزراء    المجلس الشعبي الوطني عضو ملاحظ دائم لدى برلمان عموم أمريكا اللاتينية والكاريبي "البرلاتينو"    المنافسات الافريقية للأندية (عملية القرعة): الاندية الجزائرية تتعرف على منافسيها في مرحلة المجموعات غدا الاثنين    الشروع في مراجعة اتفاق الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوربي السنة القادمة    رئيس الجمهورية: متمسكون بالسياسة الاجتماعية للدولة    انضمام الكونفدرالية الوطنية لأرباب العمل الجزائريين لمجلس التجديد الاقتصادي الجزائري    مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي: فيلم "ميسي بغداد" يفتتح المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة    هادف : اللقاء الدوري لرئيس الجمهورية مع الصحافة حمل رؤية ومشروع مجتمعي للوصول إلى مصاف الدول الناشئة في غضون سنة 2030    أوبك: توقعات بزيادة الطلب العالمي على الطاقة ب 24 بالمائة بحلول 2050    تونس: انطلاق عملية التصويت للانتخابات الرئاسية    رئيس الجمهورية يؤكد أن الجزائر تواصل مسيرتها بثبات نحو آفاق واعدة    الكشف عن قميص "الخضر" الجديد    مراد يتحادث مع المديرة العامة للمنظمة الدولية للهجرة    المعارض ستسمح لنا بإبراز قدراتنا الإنتاجية وفتح آفاق للتصدير    انطلاق الطبعة 2 لحملة التنظيف الكبرى للجزائر العاصمة    عدم شرعية الاتفاقيات التجارية المبرمة مع المغرب.. الجزائر ترحب بقرارات محكمة العدل الأوروبية    مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي: فيلم "ميسي بغداد" يفتتح المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة    مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي يعود بعد 6 سنوات من الغياب.. الفيلم الروائي الجزائري "عين لحجر" يفتتح الطبعة ال12    الجمعية الدولية لأصدقاء الثورة الجزائرية : ندوة عن السينما ودورها في التعريف بالثورة التحريرية    سوق أهراس : الشروع في إنجاز مشاريع لحماية المدن من خطر الفيضانات    البليدة..ضرورة رفع درجة الوعي بسرطان الثدي    تيميمون: التأكيد على أهمية التعريف بإسهامات علماء الجزائر على المستوى العالمي    الرابطة الثانية هواة (مجموعة وسط-شرق): مستقبل الرويسات يواصل الزحف، مولودية قسنطينة ونجم التلاغمة في المطاردة    بيتكوفيتش يعلن القائمة النهائية المعنية بمواجهتي توغو : استدعاء إبراهيم مازا لأول مرة ..عودة بوعناني وغياب بلايلي    بداري يعاين بالمدية أول كاشف لحرائق الغابات عن بعد    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 41825 شهيدا    حوادث المرور: وفاة 4 أشخاص وإصابة 414 آخرين بجروح خلال ال48 ساعة الأخيرة    أسماء بنت يزيد.. الصحابية المجاهدة    يوم إعلامي لمرافقة المرأة الماكثة في البيت    إحداث جائزة الرئيس للباحث المُبتكر    دفتيريا وملاريا سايحي يشدد على ضرورة تلقيح كل القاطنين    سايحي: الشروع قريبا في تجهيز مستشفى 60 سرير بولاية إن قزام    استئناف نشاط محطة الحامة    افتتاح الطبعة ال12 لمهرجان وهران الدولي للفيلم العربي    سايحي يشدد على ضرورة تلقيح كل قاطني المناطق التي شهدت حالات دفتيريا وملاريا بالجنوب    محارم المرأة بالعدّ والتحديد    خطيب المسجد النبوي: احفظوا ألسنتكم وأحسنوا الرفق    حق الله على العباد، وحق العباد على الله    عقوبة انتشار المعاصي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من بكارية إلى بئر العاتر.. أطفال البنزين.. سيارات "الميغ" وطبق المفور
أسبوع في تبسة جمهورية المهرّبين
نشر في الفجر يوم 20 - 01 - 2014

عندما تصل إلى بئر العاتر تكون قد قطعت تقريبا مسافة 85 كلم انطلاقا من مدينة تبسة. هنا تكون كل الدروب بينك وبين الخلف قد انقطعت. وإذا لم تكن رفقة أحد أبناء هذه المنطقة لن يصير فقط تنقلك في هذه الدروب بلا فائدة لكنك أيضا ستكون مهددا في أية لحظة بالسرعة الجنونية للسيارات التي تقطع الطريق دون اعتبار لقانون المرور ولا للحواجز الأمنية.. فهنا يصبح كل شيء مباحا.. السرعة المفرطة وعصيان القانون واللامبالاة بحواجز الدرك.
لم تكن السيارات المجنونة التي تقطع طريق بئر العاتر وتبسة غير سيارات المهربين التي لا يمكن أن تخطئها العيون، لأنها ملفتة للانتباه، فهي منزوعة الأضواء ولوحات الترقيم، يلقبها سكان بئر العاتر وتبسة عامة بسيارات ”الميغ” لسرعتها الجنونية. رغم أن السيارات بلا أضواء ولا لوحات ترقيم، لكن الكل هنا يعلم من أين جاءت وإلى أين هي ذاهبة، فدروب تبسة كلها تقود إلى الحدود التونسية، حيث تهرب خيرات البلاد، وعلى رأسها الوقود والماشية التي يتم مقايضاتها بالسلع التونسية التي تعج بها أسواق تبسة. أحد العارفين بهذه الدروب أكد لنا أن أموال المهربين لا تعبر الحدود لكنها تأخذ اتجاهات أخرى إلى دبي، أين يتم استثمارها أوإعادة إدخالها بطرق أخرى، حيث تمتد العلاقات بين شبكات التهريب وبارونات الحدود إلى أبعد ما يمكن أن نتصوره لدرجة أنها قادرة دائما على التكيف مع المتغيرات السياسية. وقد تناولت الصحف عدة وقائع وحوادث تبرز كيف تكيف المهربون مع الزعماء الجدد في تونس.
سوق ليبيا.. طريق ”الشيفون” من أوروبا إلى أسواق العاصمة
لمعرفة أنواع السلع التونسية التي تدخل إلى الجزائر، يمكن لأي زائر لمدينة التاريخ العريق تفيست، مدينة كركلا والشيخ العربي التبسي، أن يزور سوق ليبيا أوسوق ”الشيفون” كما يلقب هنا. موقع السوق المتواجد مباشرة على التماس مع محطة المسافرين جعل منه سوقا استراتجيا يقصده الناس من كل فج عميق، ليس فقط لأسعاره المنخفضة لكن أيضا لتنوع سلعه، فهنا يمكنك أن تجد كل ما يمكن أن يخطر على بالك من آخر ماركات الأدوات الكهرومنزلية إلى الملابس والأثاث القديم إلى قطع غيار السيارات. هنا يمكن أيضا للسراق أن يبيعوا بضاعتهم دون أن ينتبه إليهم أحد. هنا أيضا يمكنك أن تلاحظ بشكل لافت انتشار مستودعات تخزين ”الشيفون” القادم من تونس، فمنذ إقرار البرلمان الجزائري لقانون حظر استيراده صارت الحدود التونسية معبرا رئيسيا لهذا النوع من التجارة القادمة من أوروبا عبر تونس، قبل توزيعها على مختلف الأسواق الوطنية. يضم هذا السوق وما جاوره من مناطق أكثر من 40 مصنعا أو ورشة معدة تتم بها عملية معالجة ”الشيفون” وترتيبه في شكل رزم قبل إعادة تسويقه في مختلف ولايات الوطن.
بسوق ليبيا يمكن أيضا أن يجد الفقراء قوت يومهم عن طريق السلع البسيطة التي يعرضونها للبيع، فالكل هنا يشتغل بطريقة أو بأخرى في البيع والشراء. الشاب الذي رافقنا التفت إلينا محذرا.. ”هنا ينتشر اللصوص والسراق لذا عليكم الانتباه لهواتفكم خاصة، ومن المستحسن إطفاؤها أو وضعها على الصامت”. حركة وضجيج وارتفاع أصوات الباعة والمنادون على سلعهم بينما آخرون غارقون في حديث جانبي. جمال قال لنا إن سوق ليبيا سميت بهذا الاسم لأنها كانت تستقبل السلع القادمة من ليبيا، هنا يلتقي أيضا المهربون وقد يعقدون صفقاتهم ومواعيدهم.. لا يبدو هذا صعب الملاحظة فسيارات ”الميغ” بادية للعيان بوضوح.
خارج سوق ليبيا تستوقفك السلع التونسية من المشروبات إلى الألبسة وحتى الحلويات. من باب السور إلى درب المزابية وشارع حرفيي الذهب، تبدو تبسة وكأنها مدينة تونسية من كثرة السلع التي تحمل ماركة ”صنع في تونس”، حتى الشيشة التي تنتشر في مقاهي تبسة بنكهات مختلفة تحيلك قسرا إلى مقاهي شارع الحبيب بورڤيبة في تونس. مرافقنا في الجولة الصباحية لسوق ليبيا أكد لنا أن ”المعسل” المستعمل في تحضير الشيشة يجلب من تونس، مثل الفحم، أسعاره هنا تتراوح بين 250 إلى 300 دج للكيلوغرام ويمكن لأي زبون يمر بشوارع ودروب تبسة أن يدفع 120 دج لتعديل مزاجه.. إذا كان من هواة الشيشة أوالرنجيلة التي تقدم أيضا كخدمة مرافقة في محطات الخدمات والمقاهي الصغيرة التي تم إنشاؤها على طول الطريق السيار، وغالبا ما تتم مقايضة هذه السلع بالوقود.
دورية نحو الشرق.. عائلات تعيش من التهريب ودروب لا يعرفها إلا المهربون
كانت الساعة تقارب الثانية بعد الظهر، جائتني مكالمة هاتفية من صديقة لم أرها منذ سنوات عندما حكمت عليها الغربة بالإقامة في بيروت. القدر رتب لنا موعدا لم ننتظره في تبسة مسقط رأسها. كنت طبعا سعيدة جدا أن أرى صديقة لم أجلس إليها منذ سنوات. استقبلتني بفرح عجزت الابتسامة عن ترجمته إلى كلمات. إلى أين نذهب؟ سؤال كان بداية الحديث بيننا وأنا أصعد إلى السيارة التي جاءت خصيصا ل”سرقتي” من روتين معارض قصر الثقافة بتبسة. لا تسألي اصعدي وسترين، أجابت صديقتي، في الطريق حديث عن رحلتي وأوضاع تبسة التي لا تختلف كثيرا عن أوضاع الجزائر.
قادنا الحديث إلى مواضيع متشعبة حتى وصلنا إلى اقتصاد البلد المنهار تحت سياط الفساد والسرقة والنهب والتهريب على الحدود، وبالصدفة ذكرت أمامها منطقة بكارية التي تشتهر في أذهان القادمين من خارج تبسة بكونها منطقة عبور المهربين، وكنت بعد يوم من قدومي إلى تبسة عازمة على الذهاب إليها، لكن أحدهم ردعني قائلا إياك أن تغامري وحدك إذا لم تكوني بمرافقة أحد أبناء البلد، وإذا عرف أحدهم أنك صحفية ستواجهين مشاكل جمة. صديقتي ابتسمت وقالت إذن أنت ذاهبة إلى بكارية.. ابتسامة دهشة وانتصار ارتسمت على وجهي وأنا لا أعرف كيف أشكر صديقتي، ليس فقط للضيافة، لكن لقدرتها على قراءة أعماقي لهذه الدرجة من الدقة.
تشكل البوابة الشرقية الممتدة من منطقة النصلة، وتمتد على طول السكة الحديدية باتجاه بكارية والحويجبات إلى غاية المناطق المحاذية للمركز الحدودي ‘'بوشبكة''، مسالك معروفة جدا للمهربين الذين يقطعونها يوميا باتجاه الحدود التونسية ذهابا وإيابا. عند مدخل المركز الحدودي بوشبكة نجد حاجز للدرك وغير بعيد عنه حاجز آخر للشرطة، لكن على مد البصر تمتد مسالك المهربين الذي قد يخرجون بطريقة مفاجئة وسريعة، وقد لا يملك رجال الأمن الوقت لمطاردتهم في الدروب المتشعبة التي تشكل لهم مسالك مألوفة، خاصة أن أغلب المهربين هنا يرفعون شعار ”يأكلني الرصاص وما تكلنيش المزيرية”، وهي قمة اليأس والإحباط أمام الظروف التي دفعت آلاف الشبان والعائلات إلى اتخاذ التهريب مصدر رزق وحياة.
باتجاه بكارية، هذه الدروب يحفظها المهربون عن ظهر طريق من فكران إلى غاية الونزة بمحاذاة سوق أهراس، و''ذراع الحمام'' في اتجاه الشريعة وخنشلة ومرتفع القعقاع، و غيرها من الدروب التي لا يعرفها إلا خبراء التهريب ويعبرونها تهربا من مطارادات رجال الأمن والجمارك.
قرابة عشرين دقيقة من السير، سيارة بيجو 505 قادمة في الاتجاه المعاكس باتجاه تبسة بسرعة جنونية. محسن قال لنا إنها سيارة المرافقين أو المساعدين للمهربين، سيارات تسمى هنا بالكشاف لأنها تستكشف الطريق قبل مرور قوافل المهربين، حيث تؤمن لهم الطريق الرابط بين الطرفين الهواتف النقالة، حيث تعقد الصفقات خلف الحدود، وغالبا ما يتم تبادل الوقود ومقايضته مع مختلف السلع القادمة من تونس، والتي تباع في أسواق تبسة وخاصة سوق لبيبا، وطبعا سعر ونوعية السلعة وكميتها يكون محل اتفاق مسبق بين الطرفين.. ويعبر الاتفاق الحدود قبل أن تعبر السلعة.
‘'في خاطر ناس الحدود، في خاطر الڤناطرية''.. أغنية يحبها كثيرا شبان المنطقة لأنها تعبر بصدق عن جزء من المأساة التي ألقت بهم في يد بارونات تكون ثروات طائلة باستغلال غبن و بطالة آلاف العائلات التي تستغل هنا في التهريب، حيث يمكن بسهولة في بكارية ملاحظة البنايات التي تلحق بها مستودعات لتخرين السلع والوقود تمهيدا لتهريبها. محسن العارف جيدا بجغرافيا المنطقة أخبرنا أن هنا آلاف الأطفال يعانون من أمراض صدرية مختلفة نتيجة استغلالهم في تعبئة خزانات ”جبدة”، واحدة بعشرة دنانير، وطبعا الأطفال الذين لا تتعدى أعمارهم الاثني عشر سنة يستهلكون رائحة الوقود في سن مبكرة، وهذا سيكون له مستقبلا أثر على صحتهم، لكنها الظروف.. يؤكد محسن وهو يشير إلى شاحنة محترقة على الجانب الأيمن من الطريق نتيجة السرعة الجنونية لسيارات المهربين، حيث يصير السير بهذه الدروب خطيرا وقد يؤدي إلى الموت الحتمي خاصة مع الساعات المتأخرة من النهار، إذ يفضل المهربون ظلمة الليل لتكثيف نشاطاتهم، لذا فغالبا سيارات المهربين بلا أضواء ولا لوحات ترقيم ولا مقاعد خلفية. وحتى الحيوانات لا تسلم من حوادث المهربين، لذا فالرعاة يتجنبون هذه الدروب.
بعيدا عن مشاكل التهريب تشتهر بكارية بطبق ”المفور” المتمثل في لحم خروف يتم تتبيله ليلة كاملة قبل أن يتم طبخه على البخار.. لا يمكن لأي زائر للمنطقة أن يفوته، حيث يكفي طبق منه أن ينسيك مشاكل البلاد والعباد.
نستيقظ في ثالث أيام زيارتنا إلى تبسة على جو متقلب بعض الشيء يوحي بقدوم موجة برد وأمطار بمنطقة الشرق الجزائري. سائق الحافلة التي أقلتنا احتاج إلى إذن من الدرك للاتجاه إلى محطة الوقود بوسط المدينة لملئ خزانه استعدادا للرحلة، واحتاج طبعا لعرض كل وثائقه الرسمية للمهمة، لأن محطة الوقود على غرار كل محطات تبسة تشهد حالة زحام واختناق كبير، حيث كان الطابور يمتد مسافة تتجاوز كيلومتر، وهي نتيجة حتمية للتهريب المتواصل للوقود باتجاه الحدود.
أحدهم أخبرنا أن أحد كبار المهربين المعروفين جدا هنا يملك 12 شاحنة من نوع ”سيمي” يستعملها في التهريب وتدر عليه في اليوم أكثر من مائة مليون فائدة، و هو لا يقطع إلا مسافة 30 كيلومترا ذهابا و إيابا من وإلى بكارية لتفريغ حمولته تمهيدا لتهريبها.
الطريق إلى بئر العاتر أو بئر الكاهنة إلى حيث كنا نسير، يمتد على مسافة 85 كيلومتر من تبسة المدينة. جمال الطبيعة وامتداد الأفق يجعل أي عابر ينسى للحظات أنه يسير بطريقة صعبة وخطيرة، ويستحيل سلكها في غياب مرافقة أمنية أو على الأقل مع من يعرف هذه الدروب، خاصة إذا كانت الطبيعة تعرض عليك تشكيلة من الألوان المتدرجة للتربة والجبال التي تقف على طول الشريط الحدودي.
سيارات ”الميغ ”هنا يبدو نشاطها أكثر كثافة، كانت تقطع الطريق بسرعة جنونية وبدون الالتفات إلى أي شيء. ومع تقدم المسافة يصير الحذر أكثر من سرعة السيارات واجبا ومطلوبا. الوقود في بئر العاتر منعدم والمحطات فارغة، ومن حسن الحظ أننا أخذنا احتياطاتنا في تبسة وملأنا الخزان استعدادا لرحلة قد تطول. يقول أحد مرافقينا:”هنا يغيب القانون ويصير كل شيء مباحا”.. قال هذا تعليقا على سيارة كانت تحرث الطريق باتجاه الحدود وعلى متنها أكثر من خمسة خزانات وقود.. ”هنا فعلا أنتم في جمهورية المهربين”، أضاف مرافقنا كأنه يريد أن يؤكد ويرسخ انطباعنا الأول عن بئر العاتر.
عند وصولنا إلى مقر بئر الكاهنة صدمنا للمشهد، مقر البئر الذي يحمل جزءا من تاريخ البلد مهمل بشكل يدعو للبكاء، البئر الوحيدة التي تشرب منها كامل بئر العاتر لا يحمل أي إشارة تحيل إلى التاريخ العريق لهذه المنطقة، التي تضم أيضا المكان الذي دارت به آخر معارك الكاهنة قبل الفتح الإسلامي. يقال إن بئر العاتر استمدت اسمها من هذه البئر التي كانت قديما تسمى بئر العاطر، لأن أهالي المنطقة في تلك الفترة كانوا يضيفون العطر للبئر التي رميت فيها الكاهنة قبل قطع رأسها وحمله إلى دمشق.. بينما دفن جسدها بخنشلة.
في هذه المنطقة لا شيء يدل على عراقتها التاريخية، التنمية في نقطة الصفر، معالم أثرية وتاريخية مهملة، والسكان يعانون التهميش والحصار، والدروب تحت سيطرة المهربين، رجل الأمن الواقع على حاجز مهمته فقط تتلخص في تسجيل مخلفات الطريق على السيارات التي تحمل لوحات ترقيم، بينما سيارة المهربين تخضع لقوانين أخرى يتم تداولها في أماكن أخرى. الكل هنا يتحدث عن وجود تواطأ في مكان ما بين المهربين وجهات نافذة في الظل يتم الحديث عنها بصيغة الجمع، لكن لا أحد له القدرة على تحديدها!. بارونات الوقود و”الغبرة” والماشية ورؤوس الأموال وكل ما يمكن أن يخطر لك على بال.. هكذا يقول أبناء المنطقة الذين يتعايشون مع الظروف الصعبة بلا حول ولا قوة، وقد زاد اتساع الحدود من صعوبة مراقبة الوضع و التحكم فيه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.