”والآخرة خيرٌ وأبقى” يقول ابن عطاء الله السكندري:”الطي الحقيقي أن تطوى مسافة الدنيا عنك حتى ترى الآخرة أقرب إليك منها” يولع بعض المريدين (مريد، الطريق الصوفي) برواية الخوارق، على أنها كرامات عن شيوخهم دليلا على ولايتهم وعظيم قربهم من الله عز وجل، ومن أكثر ما يرددونه عنهم من ذلك اختزال المسافات تحت أقدامهم، والطيّ الذي يختصر لهم حواجز مابين البلدان المتباعدة في دقائق او لحظات: فيقال مثلا إن فلاناً من الشيوخ قد طويت له مسافة ما بين بغداد ومكةالمكرمة، فقطعها مشياً في دقائق أو ساعات. وكثيراً ما يسوق الحب كثيراً من المريدين إلى مبالغات و ربما إلى أكاذيب من هذا الباب ينسبونها إلى شيوخهم، وربما لعبت العصبية دوراً كبيراً في هذا الأمر. ولعلك إن تتبعت حال مريدي الشيوخ في هذا العصر، وأصغيت إلى ما يقولونه في حق شيوخهم، وقفت على الكثير والكثير من المبالغات والروايات التي يختلقونها عنهم. وبوسعك أن تلاحظ أثر العصبية في ذلك، فهذا الذي تراه من حال كثير من المريدين مع أشياخهم اليوم، كان موجوداً بشكل متفاوت، قلّ أو كثر في العهود السابقة أيضاً. وليس الحديث هنا متجهاً إلى معالجة هذه الظاهرة، والتحذير من تعصب المريدين لشيوخهم.. وإنما مراد ابن عطاء الله أن ينبه على أنَّ الكرامة لا تكون في ظهور خوارق تثير الدهشة والعجب كطي المسافات الطويلة في دقائق أو لحظات، فإن الله يحقق هذا الطي لكثير من مخلوقاته، كالطيور وبعض الحيوانات والجان، فلا يكون ذلك دليلاً على صلاح ولا ولاية ولا مزيد قرب من الله. إن الكرامة الحقيقية التي هي عنوان قرب صاحبها من الله عز وجل.. أن تكون بين العبد ولقاء ربه آماد طويلة كأن يكون شاباً في مقتبل العمر ولكنه يرمي ببصيرته إلى ما وراء ذلك كله، قتعلق منه الآمال والأحلام بالنعم والمتع المخبأة له عند الله.. فتتحول السنوات في حسابه إلى دقائق أو ساعات.. وهكذا تطوى سنوات الدنيا مهما طالت أمام بصيرة من تعلق قلبه بالله عز وجل حباً له ومهابةً وخوفاً منه.. وإذا كان في حساب الزمن بعيداً عنه. فهذه هي الكرامة العظمى التي تبرهن على حسن حال صاحبها لا طي المسافات بين مكة والمدينة أو بين داره أو أي مكان آخر. والذي يساعدك في تحقيق هذا الطي محبتك لله عز وجل بالسبل التي بينها الله في كتابه وسنة رسوله ومارسها الربانيون من عباده.. ألا وهو الإكثار من ذكره سبحانه وربط النعم دائماً بالمنعم.. ما القيمة الدينية في أن تملك قدرة خارقة تقرب إليك المسافات البعيدة، إذا كانت أهواء الدنيا وزخارفها مهيمنة عليك تاركةً بينك وبين الدار الآخرة حواجز ومسافات طويلة؟! المرحوم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي(بتصرف)