ليس كل من يُظهر لك الخوارق والأعاجيب ولياً بالضرورة يقول ابن عطاء الله السكندري:”ليس كل من ثبت تخصيصه كمل تخليصه”. ما المراد بكل من التخصيص والتلخيص؟ أما التخصيص فالمراد به أن يختص زيد من الناس عن غيره بمزية تتمثل في خوارق تجري على يده، مما يسمى بالكرامات: يمسك بيده حصاة وإذا هي قد تحولت إلى سكرة أو قطعة حلوى، يضع الجمرة الملتهبة في فمه أو على لسانه دون أن يحترق، يغيب عن الحاضرين فجأة ليظهر في الوقت ذاته في بلدة ثانية أو قارة أخرى، إلى آخر ما تعلم من الأعجائب التي تخترق المعروف والمألوف. وأما التخليص فالمراد به أن يتخلص الإنسان بعناية الله وفضله، من أوضار نفسه وتحكّم أهوائه وشهواته به، وأن يسمو بنفسه عن الموبقات والآفات، وتتخلص من الأمراض الباطنية التي سماها الله ”باطن الإثم”. معنى هذه الحكمة إِذن: ليس كل ما تراه يُظهر لك الخوارق والأعاجيب، ولياً بالضرورة، من أولياء الله الذين سمت نفوسهم عن شوائب الآفات والأمراض الباطنية. بل كثيراً ما تكون الخوارق مظهراً لحرفة تمرس بها صاحبها حتى أتقنها وبرع بها، أو نتيجة تدجيل يتقنه أصحابه، أو طائفاً من بعض أعمال الشياطين يدعمون به أولياءهم والسائرين وراءهم. والمقصود من بيان ذلك أن تعلم أن الكرامة الحقيقية لا تتمثل في الخوارق التي تجري على أيدي بعض الناس. وإنما هي استقامة المسلم على أوامر الله وشرعه، التزاما بها في الظاهر، ورضاءً بما يجري قضاء الله عليه في الباطن.. قيل لأبي يزيد البسطامي قدس الله روحه: إن فلاناً يمشي على الماء..فقال أبوا يزيد:الحوت أعجب منه، إذ هو شأنه، وقيل له إن فلاناً يطير في الهواء، فقال:الطير أعجب من ذلك، إذ هو حاله، وقيل له:إنَّ فلاناً يمشي إلى مكة ريرجع من يومه. قال أبو يزيد:إبليس يطوف الأرض كلها في لحظة، ولا يرد ذلك لعنة الله عنه. وليس في كلام أبي يزيد ما يدل أنه ينكر الكرامة التي قد يخص الله بها بعض أوليائه مما يدخل في صنف الخوارق. وإنما مراده أن الخارقة ليست دليلاً على الولاية ولا على أي مظاهر قرب العبد من الله. إذ هي تصدر عن أسباب وعوامل شتى كما بينا، ولكن إذا اجتمعت الخارقة مع الاستقامة التامة على أحكام الكتاب والسنة، وصفاء السريرة عن كدورات الأمراض النفسية الكثيرة، فهي عندئذ تكون واحدة من الكرامات التي أثبتها علماء العقيدة للأولياء وسائر عباد الله الصالحين. فمن كان بعكس الصفات المطلوبة شرعاً فليس من أولياء الله سبحانه، وليست ولايته رحمانية،بل شيطانية، وكراماته من تلبيس الشيطان عليه وعلى الناس. وليس هذا بغريب ولا مستنكر فبعض الناس يكون مخدوماً بخادمٍ من الجن، أو بأكثر، فيخدمونه في تحصيل ما يشتهيه، وربما كان محرما من المحرمات، ولقد قدمنا أن المعيار الذي لا يزيغ، والميزان الذي لا يجور هو ميزان الكتاب والسنة. فمن كان متبعاً لهما معتمداً عليهما، فكراماته وجميع أحواله رحمانية،ومن لم يتمسك بهما، ولم يقف عند حدودهما، فأحواله شيطانية. ومن مستلزمات الاستقامة عدم تنويه صاحب الكرامة بكراماته، وطي الحديث عنها، يقول سيد الإمام الشيخ أحمد الرفاعي في كتابه (البرهان المؤيد): ”اجتهد بهداية الخلق عل طريق الحق، ولا ترغب في الكرامات وخوارق العادات، فإن الأولياء يستترون من الكرامات كما تستر المرأة من الحيض” انظر إلى هذا الذي يقوله العلماء الربانيون من أمثال الجنيد والشيخ الرفاعي وابن عطاء الله، ثم قارن ذلك بالواقع العجيب الذي تسمعه من حال كثير من مشايخ هذا العصر.. رأس مالهم الذي يستعملونه في الدعوة إلى الله التنويه بكراماتهم وعرض الأعاجيب والخوارق من شؤونهم وأحوالهم، وأقل ما يلفتون أنظار المريدين إليه من ذلك المنامات التي يرون فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم!. ثم إن المنافسة تقوم ولا تقعد بين الشيوخ في هذا المجال، فيقوم فيهم من يدعي بأنه قد تجاوز رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في الرؤيا فأصبح يراه يقظة بين الحين والآخر، وربما حدث الناس بالحوار الذي يجري بينه وبينه، وبالأحاديث التي انفرد بروايتها عنه!.. والشأن في هؤلاء إذا تحدثوا في دروسهم ومجالسهم عن مناقب الأولياء والصالحين، أن لا يتحدثوا إلا عما قد بلغهم من الكارامات والخوارق التي كانت تجري على أيديهم، دون أي تعريج على ما كانوا يتصفون به من الزهد والورع والاستقامة على أوامر الله وهدي نببيه، وتجنب الموبقات، والترفع عن أكل الحرام، وعن الخوض في أعراض الناس!.. وربما بالغوا في نقل ما يطيب لهم من ذكر كراماتهم دون تثبت فيما ينقلونه. وإنما يطيب لهم ذلك ليتخذوا منه توطئة وتمهيدا بين يدي الحديث عن كراماتهم هم. ويركن المريدون المتعصبون لمشياخهم إلى هذا النهج ويطيب لهم أن يمتد فيما بينهم الحديث في هذه الأخبار، فيروج كل منهم لكرامات شيخه عند كل مناسبة وفي كل لقاء. وهكذا فإن مقياس صلاح الصالحين، والدليل على ولاية الأولياء في هذا العصر غدا شيئاً واحدًا هو كثرة الخوارق والأعاجيب التي تجري بين أيديهم. أما الكرامات التي هي أشق من تلك الخوارق كلها والتي تتمثل في الاستقامة الدائمة على أوامر الله مأخوذة من كتابه وسنة نبيه، وفي التورع عن الشبهات فضلاً عن تجنب المحرمات، وفي تجنب المال المشبوه فضلا عن الحرام، وفي حفظ اللسان عن الخوض في الغيبة وأعراض الناس: فقد أصبح الحديث عنه مهجوراً في أكثر مجالس الناس اليوم، ونسوا و تناسوا أنها هي،لا غيرها،مقياس صلاح الصالحين، وولاية الأولياء الصالحين. والسر في ذلك سهولة ادعاء الخوارق، وصعوبة التجمل بصفات الصالحين ومناقب الربانيين. إنَّ المهم أن يخلصك الله من آفات نفسك فإذا خلصك فقد أحبك، وذلك هو الفوز العظيم، أما إن خصك ببعض الخوارق فقد ابتلاك، وقلما مرَّ أناس من هذا الابتلاء بنجاح. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي (بتصرف)