يبدو أن العالم العربي أصبح فجأة ”مليان بالود تجاه العسكريين”، ويبدو أن الربيع العربي أصبح فجأة ”الربيع العسكري”، ولكن هل العسكريون سواسية اليوم في عالمنا العربي الساخن والملتهب؟ فعندنا نماذج العسكريين القديمة، وطابع الاستبداد الذي كان يأتي معها، فجمال عبد الناصر أسس دولة بوليسية قمعية.. استنسخ نماذج وأشكالا مثلها في سوريا والعراق واليمن والسودان وليبيا، ولكن عبد الرحمن سوار الذهب أحد الأمثلة الساطعة على صدق الوعد والأداء المشرف في الحكم الانتقالي في العالم العربي. ويبقى هو النموذج الذي يضرب به المثل سياسيا في تاريخ السودان، ومن قبله الفريق إبراهيم عبود الذي تنازل عن الحكم نزولا عند رغبة الشعب من دون إراقة دماء وبشكل حضاري. في سوريا كان نموذج أديب الشيشكلي، وهو عسكري، وكان زعيما توافقيا وتنازل من دون إراقة لدماء الشعب بعد أن أدرك أنه لم يعد مرغوبا فيه، ولا يزال يضرب به المثل حتى يومنا هذا. وهناك المثل الساطع في لبنان الذي لا بد أن يذكر فيه الرئيس العسكري فؤاد شهاب الذي أعاد لمؤسسات الدولة مكانتها وهيبتها وجدارتها وبنى جدار الثقة بشكل وطني فوق مستوى الطوائف كلها. وجاء اليوم عسكري آخر ترك منصبه بكل جدارة واحترام دون المساس بهيبة المنصب ولا القبول بإغراءات التمديد والاستمرار، وهو ميشال سليمان. وعالميا هناك أمثلة مهمة للعسكريين المسؤولين مثل بينوشيه الذي حكم تشيلي وأنقذها من أوحال الشيوعية والحرب الأهلية التي كانت على الأبواب، وتطور الاقتصاد التشيلي ليصبح إحدى قصص النجاح في العالم، ولتصبح واحة استقرار في منطقة مليئة بالاضطرابات والانقلابات العسكرية والثورات. الحكم العسكري سيّئ في مجمله، والقصص الفاشلة أكثر من قصص النجاح، ولكن من المهم تقييم تجربة ما يحدث وسط الظروف المحيطة بالحدث، وما يحدث في مصر وليبيا، على سبيل المثال، قصة مختلفة؛ ففي مصر حصل الحراك العسكري استجابة لمطلب شعبي جارف لإنقاذ مصر من براثن هيمنة فصيل يحكم باسم الدين خلف تنظيم سري وخفي ومجهول يسعى للسيطرة المطلقة لا المشاركة في الحكم. واليوم في ليبيا يستجيب الجيش لإنقاذ البلاد بالمعنى الحقيقي للكلمة من براثن العنصرية القبلية المقيتة والانقسام الجغرافي الوشيك والتفتت الحتمي لهوية البلاد، وفقدان وحدة الدولة للأبد أمام جنون وتطرف ديني وهمجية قبلية تأكل الأخضر واليابس. الغريق يتعلق بالقشة التي ترمى إليه، والحكم النظري على أحوال الغير رفاهية في غير مكانها، والشعوب أدرى باختياراتها، فهي تعي طعم الحرية، وستظل تسعى إليها، ولكنها تنشد الأمان والاستقرار في الوقت نفسه، ومن حرم من الثانية، فسيقدر ويحترم الاختيار جيدا، وعلى غيره أن يتفهم هذا الأمر الدقيق. الخيارات السياسية لا تأتي من كتالوغ موحد فيه حل للجميع.. حتى لا ننسى.