التنافس الدموي بين ”داعش” والنصرة في سوريا، غير محصور بالسلاح والغنائم والأرض، فهناك مستوى أكثر شراسة من الصراع بين هذه الشظايا الملقاة من جوف التاريخ. الصراع على ”رأسمال” التراث والوجدان التاريخي الإسلامي، لتحديد من الفريق الأقرب لصورة التاريخ القديم، التاريخ الممجد الذي يدعي كل طرف تمثيله وتمثّله. صراع حاد ومسرف لا يقف عند حد بين داعش والنصرة، وأمثالهما، على رموز ومصطلحات ونصوص وشخصيات التراث العام للمسلمين، غرضه احتكار التصرف برأس المال العاطفي هذا. نورد أمثلة منه بعد قليل، لكن قبل الأمثلة لا بد من الإشارة إلى أن الطرفين علما، مثلما علم أسامة بن لادن وحسن البنا وسيد قطب قبلهم، أن هناك شعورا بالهوان والضعة عند المسلمين، صدقا أو توهما، بسبب أن هناك مجدا قديما كان فيه المسلمون سادة الأرض، وأنه يجب تصحيح غلطة التاريخ وإعادة المجد الغابر والحكم العادل إلى الأرض للمسلمين من جديد، وأن هناك بالفعل حلا وطريقا. لكن الحكام ”العملاء” والأعداء الأجانب الألداء، يمنعون المسلمين من سلوك هذا الطريق. لكن لو استمع عموم الناس لجماعة البنا أو القاعدة، والآن داعش أو النصرة، لتم إعادة هذا المجد الممثل في صولجان الخليفة وجيوشه الجرارة. هو حنين تاريخي عاطفي لا علاقة له بالعلم والواقع الحقيقي، الذي يقول إن التاريخ هو التاريخ والدول هي الدول، فيها الصعود والهبوط، الضعف والقوة، القسوة والرحمة، فيها كل ما في الإنسان بكلمة واحدة. قبل أيام أعلنت جماعة داعش، بعد قيام خلافتها، عن إصدار نشرة إعلامية لها بعنوان ”دابق” ثم قالت جبهة النصرة على لسان أميرها ”الفاتح” الجولاني، إنها ترفض بيعة الخليفة الداعشي، وتصر على أن ”الشام” إمارة إسلامية لها، وخرج تسجيل يشتمل على تفاصيل إضافية، لكن النصرة حذرت من تسريب التسجيل، مؤكدة أن المصدر المعتمد لأخبارها هو فقط مؤسسة ”المنارة البيضاء” الإعلامية لمجاهدي الشام. دابق.. المنارة البيضاء، نماذج ساطعة على ما قلناه توّا عن هذا الصراع الشره على رموز ودلالات التاريخ والتراث والوجدان. دابق موضع بالقرب من حلب، وقعت فيه معركة فاصلة بين السلطان العثماني سليم الأول، وخصمه المملوكي قنصوه الغوري، انتهت بهزيمة ساحقة للمماليك، وبداية وهج ”الخلافة” العثمانية، كان هذا في (922ه / 1516م). ودابق ورد أيضا في أحاديث الملاحم وأشراط الساعة، حديث أبي هريرة: ”لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق - أو بدابق - فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ”. أما المنارة البيضاء، اسم ذراع جبهة النصرة الإعلامي، فيحيل نفس الإحالة، حيث جاء، كما في حديث النواس بن سمعان، آخر الزمان: ”ينزل عيسى عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين”. هذا خطاب يعرف كيف يحرك الأوتار المجروحة. إنه صراع مفتوح على الأرض والسماء، والعاطفة والعقل. يغرف بإسراف من ماء الروح.