سأفترض وإن بعض الافتراض أقرب إلى الصواب، أن واقعة لقاء الرئيس (الراحل) صدَّام حسين بالسفيرة الأميركية (المغيَّبة) أبريل غلاسبي وما أفضى إليه اللقاء من مغامرة صدَّامية انتهت كارثة تتناسل كوارث متنوعة حتى الآن.. هذه الواقعة تتكرر بعد أربع وعشرين سنة وتتمثل في لقاء رئيس كردستان العراق مسعود بارزاني برموز العلة التي يعاني من ويلاتها الكيان العربي: الإدارة الأميركية، والحكومة البريطانية حتى الآن وبالعلَن، وكثيرون آخرون.. إنما في غفلة عن عيون الراصدين الروس والإيرانيين وغيرهم من اللاعبين المتلاعبين بأقدار المنطقة العربية.للتذكير، كان الرئيس صدَّام يتطلع إلى مباركة أميركية في الحد الأقصى وغض طرْف في الحد الأدنى عن تنفيذ نيات كان بيَّتها وترمي إلى توظيف نصر غير مكتمل المقومات في أي حال على إيران الخمينية. والقول إنه غير مكتمل على أساس كونه اقتصر على أن آية الله الخميني ارتأى درءاً لكارثة أعظم تصيب إيرانه، قرر وكمن يتجرع السم على حد حيثيات قراره، القبول بوقف إطلاق النار مع العراق. والتوظيف الصدَّامي المشار إليه من أجل معالجة التداعيات الناشئة عن سنوات الحرب ماليا ومعيشيا هو إحياء فكرة استعادة ”الحق التاريخي” الذي يرى أن دولة الكويت التي كانت السند المالي والإعلامي والدبلوماسي للعراق في مواجهة المشروع الإيراني، هي ”فرع” يستعيده ”الأصل” بالذراع العسكرية. ولأن مثل هذا الأمر صعب المنال دون غطاء دولي، فإنه استدعى السفيرة غلاسبي، وعلى غير عادته في استدعاء السفراء تاركاً الأمر إلى رجل الدبلوماسية العراقية في الحقبة الصدَّامية طارق عزيز، السجين حتى الآن في الأزمان المتفجرة الثلاثة المتتالية: زمن بريمر وزمن المالكي وزمن داعش.في ذلك اللقاء بدأ صدّام حسين بالقول: ”هذا الحديث السياسي الواسع معكِ هو رسالة مني إلى الرئيس بوش (الأب) مضمونها سؤال: هل هذه هي مكافأة العراق على دوره في استقرار المنطقة وحمايتها من طوفان لم نكن نعرف على أي شاطئ سيضعها؟”. وعند الحديث حول الخلاف بين العراقوالكويت وديون العراق الناشئة عن الحرب، والبالغة أربعين مليار دولار، والتلميح إلى ما قد يفعله، قالت السفيرة غلاسبي: ”لدي توجيه مباشر من الرئيس بوش شخصيا أن أعمل على توسيع وتعميق العلاقات مع العراق، ولا علاقة لأميركا بالخلاف الحدودي العراقي - الكويتي ونأمل أن تحلوا المشكلة عن طريق الشاذلي القليبي، الأمين العام للجامعة العربية أو الرئيس حسني مبارك..”.كان ذلك قبل 24 سنة - يوم الأربعاء 25 يوليو (تموز) 1990 - أي في مثل الأسبوع الأخير من هذا الشهر. وبعد أسبوع من اللقاء - الخميس 2 أغسطس (آب) 1990 - كانت القوات الصدَّامية غزت الكويت، مفترضا الرئيس صدَّام أن قول السفيرة غلاسبي: ”لا علاقة لأميركا بالخلاف الحدودي العراقي - الكويتي ونأمل أن تحلوا المشكلة عن طريق القليبي ومبارك..”. يحتمل تفسيرين - إشارتين: إما أن الإدارة الأميركية لا تمانع وإما أنها ستقف محايدة وتشجع الجامعة العربية والرئيس مبارك على استنباط العلاج. ولقد بنى تفسيره على أساس قول السفيرة غلاسبي: ”لدي توجيه مباشر من الرئيس بوش شخصياً أن أعمل على توسيع وتعميق العلاقات مع العراق”.حدثت الكارثة لأن صدَّام حسين التقط الإشارة بغير رؤية اللبيب مع أنه كان عليه، من باب التحسب، الافتراض بأن السفيرة غلاسبي بما قالته كانت تشجعه على ارتكاب إثم الغزو أو ”الفِعْل المؤثر” على نحو التسمية التي رددها في السابق. لكن كيف سيتحسب ما دام قرار الغزوة متخَذاً من قبْل لقائه بالسفيرة التي استدعاها بأمل أن تشكِّل إدارة الرئيس بوش (الأب) غطاء لما ينوي ارتكابه ما دام أرسل إشارات طمأنة في شأن النفط لخصها بالقول إنه سيبيع النفط وليس يشربه. تطول الحكاية حول الحلم الصدَّامي الذي انتهى كابوسا وأنهى في واقع الحال العراق كدولة ذات رقم صعب. وها هو العراق بعدما كانت يمناه فقط في القبضة الأميركية، باتت يسراه أيضا في القبضة الإيرانية. كما ها هي إيران الخامنئية تفتعل في غزة حالة كتلك التي افتعلتْها في لبنان من قبل لتحويل الأنظار عن المأزق السوري نتيجة الإخفاق العربي - التركي - الدولي في وضع نهاية له والمرشح لأن ينتهي إلى حالة عالقة شبيهة بالمصير الذي انتهت إليه حركة ”مجاهدي خلْق” وهذا أمر وارد في ظل سياسة الميوعة أو (الممايعة توأم الممانعة) الأميركية - الروسية - الصينية وانشغال الأطراف المتأذية من المأزق السوري في الهموم المستجدة الناشئة عن الظاهرة الداعشية. وها هو رئيس كردستان العراق مسعود برزاني يخطط لتحويل الإقليم إلى مشروع دولة يتطلع إليها الأطالسة، لتكون الخط الأمامي لهم في ما هو آت من مشاريع الهيمنة الإيرانية، وورقة قد تفيد في ترويض عنادها النووي، ويشجعه على مخططه أن كبار القوم في الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية يتحدثون معه بعدما جعل كركوك طريدة تحقق له في حال اصطيادها الثروة التي تكتمل بها مقومات ”دولة كردستان العراق”. ولكن كما تحدَّثت السفيرة غلاسبي مع صدَّام حول ”الطريدة الكويتية” قد يكون رئيس الدبلوماسية البريطانية وليم هيغ (المستبدَل) الذي جاء يوم السبت 28 يونيو (حزيران) 2014 إلى أربيل تحدَّث مع مسعود بارزاني بمفردات غلاسبية. كما قد يكون الحديث الهاتفي بين برزاني من أربيل مع جو بايدن نائب رئيس الولاياتالمتحدة في واشنطن يوم الأحد 13 يوليو 2014 يندرج في النيات نفسها. وعلى هذا الأساس قد ينتهي أمر ”كركوك مسعود”. وتلك في أي حال حلقة منقحة وأكثر تطوراً في ”لعبة الأمم”.. على الأمة التي يراق دم المنتفضين المسلوبة حقوقهم في سوريا والعراقوغزة بشكل خاص على جوانب الأرصفة وتحت الركام.