بقلم: ابن خلدون: IBN-KHALDOUN@MAKTOOB.COM الدليل على أن صدام التقط الرسائل الثلاث الأولى التي استدرجته بها السفيرة غلاسبي هو ما قاله طارق عزيز في نفس اليوم للشاذلي القليبي حين إلتقاه على مائدة الغذاء في فندق الرشيد، حيث قال: " على الأسرة الحاكمة في الكويت أن ترحل، وأنهم يسرقون النفط ويحاولون تدمير الشعب العراقي ". تلقيت رسالة عبر البريد الإلكتروني من القارئ عبد الرزاق قرمي يطلب معلومات عن السفيرة إبريل غلاسبي. وخيرني مشكورا بين أن أرد عليه عبر البريد الالكتروني أو أتناولها في موضوع. وقد آثرت الحل الثاني، لأنه ربما من خلاله نزيل نقطة غموض كان لابد من إزالتها منذ زمن بعيد. لهذا تراني اليوم اكتب بناء على رغبة قارئ وليس بمبادرة منى، وهو أمر يسرني كثيرا. في منتصف نهار يوم 25 جويلية 1990 أي أسبوع واحد قبل غزو الكويت، تلقت سفيرة الولاياتالمتحدة ببغداد أبريل غلاسبي دعوة عاجلة للحضور لمقابلة صدام حسين، وهو الذي ليس من عادته استقبال السفراء. وكانت الدعوة مفاجئة بحكم أن السفيرة لم تلتمس مقابلة. ناهيك عن كونها المقابلة الأولى لها مع الرئيس العراقي. أضف إلى ذلك فقد تم إعطاؤها ساعة واحدة فقط للحضور. بحيث لم يكن لديها الوقت الكافي لإبلاغ الخارجية الأمريكيةبواشنطن، أو هكذا كان يبدو الأمر. وفي مثل هذه الحالات فإن السفير الذي يتلقى الدعوى بهذا الشكل فإنه سيتسلم رسالة إلى حكومته. وفعلا كان ذلك هو هدف صدام الذي أراد تبليغ رسالة إلى بوش، بهدف الاطمئنان إلى مستقبل العلاقات العراقية الأمريكية ال! تي ظلت مقطوعة في الفترة ما بين 1967 و 1985، ولم يكتب لها الارتقاء إلى المستوى المطلوب. ولكنه كان يريد شيئا آخرا ... وكان صدام حسين قبل ذلك بعشر أيام ( 16/07/1990) قد توعد الكويت في خطابه الشهري. فهذا البلد عمل حسبه على تخفيض سعر النفط لتجويع الشعب العراقي الخارج لتوه من حرب ضروس مع إيران. وهي الحرب التي اعتبرها صدام حماية لدول الخليج من الزحف الفارسي. رغم هذا كافأته هذه الدول بالجحود والنكران. لهذا قال صدام " قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق. وإذا عجز الكلام أن يقدم لأهله ما يحميهم فلابد من فعل مؤثر يعيد الأمور إلى مجاريها الطبيعية ويعيد الحقوق المغتصبة إلى أهلها ". ومن المؤكد أن الدوائر الرسمية في واشنطن قد قرأت خطاب الرئيس العراقي وفهمت معنى " الفعل المؤثر " الذي يقصده. لهذا جاءت المقابلة مع السفيرة على خلفية التهديد بهذا الفعل المؤثر. فقد أراد صدام قراءة استباقية للموقف الأمريكي من ! خلال اللقاء مع غلاسبي. وقامت هذه الأخيرة بالدور الذي أريد لها أن تقوم به خلال ذلك اللقاء. وهو اللقاء الذي غير وجه الشرق الأوسط على النحو الذي نراه اليوم. لقد وصلت الأزمة بين الكويت والعراق أوجها بسبب اتهامات عراقية بقيام الكويت باستغلال أبار نفط حدودية متنازع عليها، مغتنمة حسب قول العراقيين حالة الحرب مع إيران. وطالب صدام بتعويض قدره 10 ملايير دولار. ووافق الكويتيون على منحه 9 ملايير دولار في لقاء الفرصة الأخيرة بالسعودية. وبسبب 01 مليار فشل للقاء. ورغم أن الملك فهد تبرع بذلك المليار خلال مأدبة العشاء التي أقامها للوفدين، إلا أن اللقاء فشل بسبب اشتراط الكويت تقديم تلك الأموال مقابل تسوية المسائل الحدودية، وهو ما رفضه الوفد العراقي باعتبار مسألة الحدود لم تكن مطروحة في جدول الأعمال. وهكذا لعب الطرفان بمصير المنطقة لأجل مليار دولار....!؟. لكن صدام لم يكن ليقدم على مغامرة إلا ب! عد الاطمئنان للموقف الأمريكي. لهذا جاء اللقاء الحاسم مع السفيرة غلاسبي ليوضح له الرؤية، فتمت مغالطته والتغرير به. المقابلة حضرها وزير الخارجية طارق عزيز. واستهلها صدام مخاطبا السفيرة المحنكة التي بدأت مسارها الدبلوماسي في سفارة بلادها بالكويت، حيث قال :" ...عندما تقضي السياسة المرسومة بتخفيض سعر النفط بدون سبب تجاري مقبول، فإن ذلك يعني شن حرب أخرى على العراق..." وأتهم صدام يومها الكويت والإمارات بوضع هذه السياسة التي تستهدف النيل من مكانة العراق وحرمان شعبها من المستويات الحياتية العالية. خلال هذا اللقاء عمدت السفيرة غلاسبي إلى نصب فخ محكم لصدام حين جعلته يصدق الإدعاءات الأمريكية بالتزام الحياد. بل استدرجه كلامها إلى ارتكاب الإثم الكبير المتمثل في اجتياح الكويت. وبذلك أخطأ في قراءة الموقف الأمريكي بشكل جعله يعتقد أن إدارة الرئيس بوش الأب أعطت له الضوء الأخضر ليتصرف مع الكويت كيفما شاء. لقد فهم صدام فهما خاطئا أربعة أمور أساسية: الفهم الخاطئ الأول: حينما تناول صدام الخلاف الحدودي مع الكويت قالت له السفيرة غلاسبي:"بشكل عام نحن لم نتدخل قط في الخلافات الحدودية بين العراق والكويت منذ 1960 " وأضافت: " لقد كنت في السفارة الأمريكية بالكويت في أواخر الستي! نيات، وكانت التعليمات تقضي بعدم إبداء الرأي في هذه القضية التي لا شأن لنا فيها ". بل وأبعد من ذلك قالت له: " لا علاقة لأمريكا بالخلاف الحدودي العراقي – الكويتي. ونأمل أن تحلوا المشكلة عن طريق القليبي ( الأمين العام للجامعة العربية ) أو الرئيس مبارك ". واعتبر صدام هذا الموقف ضوءا أخضرا. الفهم الخاطئ الثاني: عن التخفيض المتعمد لأسعار النفط والذي يتهم العراق الكويت بالوقوف وراءه قال صدام للسفيرة غلاسبي أنه لا يريد ارتفاعا جنونيا للأسعار. فسعر 25 دولار للبرميل ليس بالسعر المرتفع. وردت السفيرة غلاسبي: " لدينا كثرة من الأمريكيين الذين يريدون سعرا أعلى، لأنهم من المناطق التي تنتج النفط ". وكان هذا هو الضوء الأخضر الثاني الذي جعل صدام يعتقد أن الإدارة الأمريكية توافق على طلبه رفع الأسعار، ولو بإرغام الكويت. الفهم الخاطئ الثالث : قال صدام للسفيرة أن الكويتيين أصيبوا بالذعر من قواته المتواجدة على بعد 20 كلم من الحدود، وهو الخوف الذي أبلغوه للرئيس مبارك. وقد أبلغ الأخير لأن يعد الكويتيين بالنيابة عنه بأنه لن يفعل شيئا حتى يجتمع الطرفان بجدة بالسعودية، وهو لقاء الفرصة الأخيرة. فإذا وجدنا عندما نجتمع بهم أن هناك أملا فلن يحدث شيئا كما أضاف صدام. لكن إذا تعذر التوصل إلى حل، فسيكون من الطبيعي ألا يقبل العراق بالموت. وكان عدم تعقيب السفيرة على هذا التهديد بمثابة ضوء أخضر آخر لصدام. الفهم الخاطئ الرابع : جاء هذا الفهم من واشنطن خمسة أيام بعد لقاء صدام بالسفيرة، وإبلاغها سلطات بلادها برسائل صدام. يومها رد ممثل البيت الأبيض على أسئلة النواب بشأن الدفاع عن الكويت في حالة اجتياحها. وكانت التقارير الاستخبارية تفيد بحشد 100 ألف جندي عراقي ومعهم 300 دبابة و 300 مدفع ثقيل. وقتها كان رد البيت الأبيض " ليست هناك معاهدة بيننا وبين دول الخليج " وهو الخبر الذي أذاعته البي بي سي BBC ووصل إلى بغداد ليعطي إشارة الضوء الأخضر لاجتياح الكويت. والدليل على أن صدام التقط الرسائل الثلاث الأولى التي استدرجته بها السفيرة غلاسبي هو ما قاله طارق عزيز في نفس اليوم للشاذلي القليبي حين إلتقاه على مائدة الغذاء في فندق الرشيد، حيث قال: " على الأسرة الحاكمة في الكويت أن ترحل، وأنهم يسرقون النفط ويحاولون تدمير الشعب العراقي ". استدراج صدام حسين بهذه الكيفية من قبل دبلوماسية ماكرة هو الذي غير وجه الشرق الأوسط والى الأبد، ومكن في النهاية من تشتيت الصف العربي، ووأد القضية الفلسطينية التي غدت اليوم في نظر المجتمع الدولي إرهاب أكثر منه مقاومة. وقضى على مقدرات دولة محورية عربية ومعها كل الصقور السياسية العربية. المهم أن علاسبي أدت دورها بإتقان. وبعد أن استدرجت صدام حسين إلى المستنقع، غادرت بغداد عشية غزو الكويت ومن دون رجعة. لتصرح بعد ذلك لصحيفة النيويورك تايمز بعد الغزو مباشرة أن إدارة بوش الأب ربما كانت مستعدة للتسامح مع استيلاء عراقي محدود على قطعة صغيرة من الكويت. وأن أحدا من المسؤولين في الحكومة الأمريكية لم يخطر على باله أن العراقيين سيستولون على الكويت بالكامل ". لكن السفيرة غاب عنها ما رد به جون كيلي على النائب لي هاملتون عضو لجنة الشرق الأوسط بمجلس النواب الذي سأل: ماذا سيكون موقفنا من استخدام القوات الأمريكية إذا تجاوز العراق مثلا الحدود الكويتية ؟ هل يكون موقفنا صحيحا إذا قلنا بأنه لا توجد معاهدة أو التزام يوجب استخدام القوات الأمريكية ؟. فأجاب كيلي : " هذا صحيح تماما " وكان هذا ما أرادت الإدارة الأمريكية لصدام سماعه. وكان هذا ما كان صدام يريد سماعه. لهذا صم أذنيه عن غيره من التصريحات، ومنها تصريح وزير الدفاع الأمريكي ريتشارد تشيني الذي قال: أن الولاياتالمتحدة ملتزمة بالدفاع عن الكويت إذا هوجمت. وهكذا بيت الأمريكان لصدام الشر إن هو هاجم الكويت، لكنهم دفعوه إلى غزوها. وأسندت مهمة استدراج سيد بغداد العنيد لامرأة هي السفيرة ابريل غلاسبي. تلك المرأة التي اختفت منذ غزو الكويت وحتى الآن ولا ندري سر هذا الاختفاء؟. كما لا ندري لماذا صدق صدام حسين كلامها ووقع في المصيدة ...