كان هيغل يقول إن التاريخ يعيد نفسه مرتين. وأيده ماركس في ذلك، لكنه أضاف أن التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى على شكل تراجيديا، وفي المرة الثانية على شكل كوميديا. هل ينطبق ذلك على التاريخ العربي؟ لا نعتقد. نعم، إنه يكرر نفسه لكن بشكل تراجيدي دائما. أو بشكل كوميدي، أكثر مرارة من التراجيديا؟ في كل مرة نقول إنها فترة حالكة وستمضي، وإذا بنا نجد أنفسنا كل دورة جديدة من هذا التاريخ نعيش حلكة أشد كثافة من سابقتها. كأن 1200 سنة لم تمر قط. كأننا نعود إلى سقوط بغداد، سقوط التاريخ العربي قبل 1220. لماذا نعود والآخرون يتقدمون؟ لماذا يدور تاريخنا على نفسه، فكلما انطلق، أو يوهمنا بذلك، نجده يعود إلى نقطة الصفر، كأنه لم يبتدئ بعد، أم تراه فعلا لم يبتدئ بعد؟ إذن، أين مضى الدم والآلام والدموع، وأكوام الضحايا، والسجون والمشانق، وأكداس المنفيين، والثورات المغدورة وغير المغدورة، والكتب والعلماء والشعراء الملعونون، الذين حاولوا دفع عربة التاريخ قليلا إلى الأمام؟ أكان كل ذلك سدى؟ حتى يجيء هؤلاء الرابضون على أبواب بغداد، على أبواب تاريخنا العربي؟ ألم يمضوا قبل أكثر من 1200 سنة، فكيف عادوا؟ أم إنهم لم يمضوا قط؟ من أين جاءوا.. من أرحامنا؟ وإن لم يجيئوا من أرحامنا، فمن أين جاءوا؟ أية ثقافة ولّدت هؤلاء؟ لا يكفي توصيف هؤلاء كما نفعل الآن، ثم نستريح. ولا يكفي أن نعلق كل شيء على مشجب التخلف. العنف موجود في كل المجتمعات، كما في أعماق كل فرد، مثله مثل أية سمة إنسانية أخرى، لكن إنتاجه وإعادة إنتاجه يعتمدان على شروط معينة، إما أن تغذيه فينفجر أو تروضه وتنزع عنه وحشيته وقبحه ”وتعقلنه” إن صح التعبير. العنف لا يرتبط بمجتمعات معينة أو طبقات معينة، لكن هناك شروطا كثيرة تسمح بازدهاره، وهذه الشروط للأسف متوفرة في مجتمعاتنا، وأهمها غياب الثقافة الحقيقية، وتحديدا الإسلامية، وهذا ما قصر عن فعله قسم كبير من رجال الدين للأسف، وكذلك استحكام ما يسميه محمد أركون ”الحلقات العتيقة المتخلفة في التراث الإسلامي”. غياب كل ذلك، أدى إلى اختلال التوازن عند كثير من الشباب إن لم نقل فقدانه تماما، هذا الشباب الباحث دائما، بحكم عمره وتكوينه النفسي والذهني، عن مثال يقتديه، سلبا أو إيجابا، وهو يلتفت يمينا ويسارا فلا يجد سوى صورتين مشوهتين، وقد تنتج إحداهما الأخرى، فيما يبدو أنها تنفيها ظاهريا: التسيب أو التعصب: الانجرار وراء الصورة الوهمية القادمة من الفضاء بكل ألوانها وزركشتها، أو النكوص إلى ماض صادرته حركات الإسلام السياسي المتطرف، وزينته بالوهم بما يغذي أذهان ونفوس الشباب الغض. إننا نساهم، بوعي أو دون وعي، وعبر أشكال مختلفة وخصوصا في مناهجنا وإعلامنا، في خلق ”ثقافة” هشة، كذوب، فارغة، تقتل، بطريقة تدريجية، كل المثال الإيجابي الذي يمكن أن نقدمه للشباب، الذين يشكلون المادة الأساسية لكل الحركات العنفية. علينا أن نعترف بذلك بكل شجاعة إذا أردنا أن يبتدئ تاريخنا الحقيقي مثل أمم الأرض. كل خطابات العالم لن تغير شيئا، إذا لم نغير فهمنا لطبيعة ثقافتنا ذاتها، ونعترف أن هذه الثقافة هي التي تصنعنا قبل أن نصنعها، وتشكلنا على طريقتها، وتصوغ أفكارنا وتصوراتنا عن أنفسنا والعالم والآخرين، وإذا لم نغير طرائق عملنا، وهو أمر بحاجة إلى ثورة حقيقية، فسيظل شبابنا ضحية لثقافة الموت.