أعراض سقوط هيبة الدولة ومكانتها تبدأ من مستصغر الشرر، وهي عادة تكون من مشاهد بسيطة وشاذة، في بداياتها يستغرب ويتعجب منها الناس ولكن مع مرور الوقت وغياب الاعتراض يتعودون عليها وتصبح أساسية بلا مقاومة تذكر. ولعل من الأمثلة البسيطة جدا هي الظهور المفاجئ والمنتشر للوحات ”هذا الموقف مخصص لزبائن المحل.. الرجاء عدم الوقوف” وذلك أمام عدد غير بسيط من المحلات التجارية في الكثير من المدن العربية بشكل مثير وغريب، وسيكون الجواب أو التعليق فيما لو حاولت الإقدام بالوقوف أمام اللوحة أن يأتي أحد من داخل المحل ليقول لك ”حاول أن تجد مكانا آخر للوقوف فيه، هذا المكان خاص بصاحب المحل”. بديهي طبعا أن المكان هو ملك للدولة، شارع عام ورصيف عام وليس ملك صاحب المحل. وطبعا من البديهي أن يأتي بعدها أحد الفلاسفة المتطوعين ليقول لك ”ولماذا تصدّع رأسك بهذه المواقف؟” لن يقول لك ذلك إلا وهو متأكد وحتما أن له علاقة مع مسؤولين كبار ومؤثرين، أو قد يكون هو واجهة لهم: ”أنصحك مخلصا بأن تقف بعيدا جدا وتجنب نفسك كل ذلك الهم والغم والنكد والإهانة المنتظرة”، وفجأة مع مرور الوقت ”قبل” الكل الرضوخ لفكرة أن المحل ومواقع أمامه ملك لصاحبها وأصبح عرفا. هذا تفسير جديد وعصري لفكرة نظام وضع اليد وبالتالي يتطور مفهوم الفساد ليصبح ويتحول إلى فكرة عامة وبمباركة ورعاية الفاسدين والمفسدين سواء أكان ذلك الأمر بشكل واضح ومباشر أم غير ذلك، وبالتدريج يتم تحويل قطاعات ومراكز إلى إقطاعيات ومناطق نفوذ كبيرة ومؤثرة منها الأرصفة والأراضي والأقبية والعمارات والفتحات الفارغة والبحار والأنهار وتحت أدراج البناء وعلى أصحاب الكرامات الدون كيشوتية اللجوء إلى الهواء! وهذا خلق توصيفا جديدا لأصحاب التوجهات هذه وباتوا يعرفون بأنهم ”شطار” ويعرفون كيفية التصرف، وليس الوصف الأدق بأنهم محتالون ومتسلطون على القانون والنظام بشكل سافر، وهو أيضا أوجد تعبيرا منافقا لمن يلتزم بالقانون والنظام فأصبح يوصف بأنه ”مسكين ودرويش وعلى نياته وغلبان”، وعادة ما يكون هذا الوصف لتوضيح حال رجل بسيط ولكنه شريف وأمين وتحول الوصف إلى وصف أكثر غلظة ووقاحة ليكون وصفا لأحد شريف ليس بالطبع ولكن لانعدام الوسيلة، فقير ليس للتعفف ولكن لانعدام الحيلة، فهو ليس له سند ولا ظهر من أصحاب النفوذ والمسؤولين وأعوانهم وزبانيتهم. هو على الأرجح موظف بسيط جدا ومحدود الذكاء حتى وإن كان متعلما ومثقفا ومتحدثا بل ومتدينا أيضا ليس للورع ولكن لعدم وجود أي نوع من أنواع الجاذبية. هناك الآلاف من الحالات التي أصابها الأذى الجسيم والمدمر ودمرت نفوس عزيزة وأبية بدوافع الحقد والتشفي وذلك بسبب أنه يوجد أناس لا يقتنعون أن هناك من هو أفضل منهم، فاختار طريق الزهد وعزة النفس والكرامة لتتوج بعد ذلك العبارة الأكثر تشويها لفكر الشارع المهيمن ”أنت عارف بتكلم مين؟”، وهي عبارة تهديدية ابتدعها عناصر من الشبيحة والزعران والمنتفعين المحسوبين على المسؤولين، وهي ذهنية سادية وحشية قمعية تجذرت مع مرور الوقت بشكل مذهل عبر سماعها المتكرر في كل الأماكن والمواقف مولدة هرمونات ”النفخة الكاذبة” وفيتامينات التباهي المنتهية صلاحيته. إنه صراع بين الشارع المتفلت والمشرع الصامت. احترام المواطن يأتي من هيبة الدولة العادلة ومشاهدة ما يحدث في العالم العربي تؤكد توحش الاثنين.