اختلفت الكتابات التاريخية للفرنسيين عن ثورة التحرير ورموزها باختلاف نظرتهم للتاريخ والمسافة التي كانت تفصلهم عن مراكز الحكم والعلم. فبين من مجّد التاريخ وأثني على الثورة ودافع عن إنجازات رجالها محتكما في ذلك لضميره العلمي والإنساني، وبين من شوه رموزها وقدم المجازر على أساس أنها واجب وطني لفرنسا ومكافحة إرهاب ثائر ضد نظام هو في الأصل استعمار، قالبا بذلك الموازين والمفاهيم الإنسانية المتعارف عليها في المنظومة الدولية. وذلك هو الاختلاف الذي تجسده النظرة والمسافة الكبيرة بين رؤية فيلسوف الثورة جون بول سارتر والجنرال بول أوساريس. من بين النماذج التي تطفو على السطح في مجال الكتّاب الذين مجدوا الثورة الجزائرية وآثنوا على صناعها وأقروا بالتضحيات الجليلة للمجاهدين، الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، الذي حول قلمه إلى سلاح للدفاع عن الثورة ومساندتها في منابر عالمية من أجل تحقيق الاستقلال. جون بول سارتر، رجل متشبع حتى النخاع بالمبادئ الإنسانية والمؤمن بالعدل والمساواة بين الشعوب وأحقية الجميع في العيش الكريم والحرية والانعتاق من الاستعمار، ساهم في تغير المفاهيم حول الثورة داخل النخبة الفرنسية المؤمنة بتلك المبادئ، وهي التي ذاقت ويلات الاستعمار النازي المرير. إيمان جون بول سارتر بالثورة جاء في إطار انخراطه في الدفاع عن الإنسانية، وطيلة ثماني سنوات كاملة تحرك سارتر في اتجاهات مختلفة ليغير الأوضاع لصالح الثورة وشعب الجزائر وحقه الشرعي في الدفاع ضد الاستعمار الفرنسي، بشكل وسع دائرة التعاطف مع الثورة بالخارج. جون بول سارتر يقلب مفاهيم النخبة الفرنسية لصالح الثورة الجزائرية اعتمد جون بول سارتر في كتابه ”عارنا في الجزائر” من ترجمة عايدة وسهير إدريس، دار الأدب بيروت 1975، على المنطق والأسباب، حيث يركز في تحليله على الأوضاع المزرية في اندلاع الثورة الجزائرية وتحريكها واحتضانها من قبل الطبقة الكادحة التي كانت تعاني الفقر والحرمان والبؤس الشديد، وهي عوامل قوت شوكة الثورة وعززت الوطنية وسط الجزائريين، حسب نظرة سارتر. وجسد جون بول سارتر تلك الأفكار أيضا في الأزمة الحديثة نشرية خصصت للحديث عن الاستعمار الفرنسي بالجزائر وأحقية وشرعية الثورة الجزائرية، وقد كان ذلك سنة 1955. ”الكولونيالية”، مارس 1956، هو مقال آخر عزز فيه جون بول سارتر دفاعه عن الثورة الجزائرية، ملتزما بتحليل علمي ومنطقي يبرز فيه الآليات الاستعمارية السياسية منها والاقتصادية في ترسيخ الاستعمار بالجزائر، لينتهي بإلزامية القضاء على هذه التركيبة ألانها تقوم على الظلم واللاعدالة وانتهاك حق الآخر. و”معذبو الأرض” هي أيضا نقطة إضافية في سجل دفاع الكاتب عن الثورة، وهي تجسيد عن الشهادات الحية للمعاناة التي نقلها سارتر عن الجزائريين وبشاعة الاضطهاد ومعاملة المستعمر لهم كحيوانات. ونفس الموقف عبر عنه خلال ملتقى من أجل السلم في الجزائر المنعقد بباريس في جانفي 1956، برعاية حركة المثقفين ضد استمرار الحرب في الجزائر. كانت إسهامات جون بول سارتر بين مارس 1956 وأفريل 1962 مصدرا لنقاط تحول كبير في نظرة الفرنسيين والعالم للثورة ، باعتبار أن جون بول سارتر مصدر إشعاع و قدوة في تلك الحقبة الزمنية، وهو ما خدم الثورة كثيرا وأحدث ثورة في القيم والافكار حول الثورة. وسجل المؤرخ محمد حربي في 1990 شهادة حو ما كتبه جون بول سارتر عن الثورة قائلا:”ومنذ هذا التاريخ عرف سارتر ‘'تجديدا أخلاقيا''، أوصله إلى اكتشاف موضوع جديد للتاريخ أكثر راديكالية من طبقة البروليتارية وهم المستعمرُون، وقد استفادت الثورة الجزائرية كثيرا من هذا الاكتشاف، فتحصلت على دعم جبهة ثقافية واسعة في فرنسا”. ونجح بول سارتر في إسقاط التسميات الصحيحة على المستعمر، مقدما في مقالاته بجريدة الإكسبرس سنة 1956 شهادات عن إطلاق المستعمر لتسميات الإرهابيين عن موريس أودان وهنري علاڤ اللذين تعاطفا مع الثورة الجزائرية. و قال إن المستعمر كان يتخفى وراء خدعة الأمن القومي. وقد أحدثت تلك المقالات قلبا في موازين الأفكار لدى النخبة الفرنسية. ومن الآثار التي تركها فكر سارتر على النخبة نجد إسهامات الكاتب ريمون آرون، الذي سار على خطى فيلسوف الثورة حيث اختزل حواجز الدين أو العرق من أجل مناصرة القضية الجزائرية ويدافع عن أحقية الشعب الجزائري في الاستقلال. و قد كان ريمون آرون من أبرز المدافعين في جريدة لوفيغارو عن الثورة الجزائرية، تمكن في مقالاته المتعددة عن الثورة من تغير النظرة الفرنسية حول الجزائر المستعمرة، وصنع أنصارا للقضية خارج التراب الجزائري ووحد صفوف محبي الثورة وقواها أكثر بفضل إسهاماته المتعددة بالجريدة التي تتمتع بسمعة جيدة في الأوساط المثقفة الفرنسية، كونها جريدة نخبة وصانعة للرأي الفرنسي حول العديد من القضايا العالمية. وعلى نفس المنوال تحرك بيار فيدال ناكي، المؤرخ المتميز، كانت له نظرة علمية للأحداث التاريخية بصفة عامة، ولم يستثن الثورة الجزائرية من الثورات الأخرى التي كان يرى فيها حقا شرعيا لتحقيق العزة والكرامة والعيش في كنف المساواة والحرية والعدالة، مقتنعا بذلك بكون الثورة الفرنسية التي غيرت فرنسا وصدرت أفكار التحرر للعالم لا تختلف عنها الثورة الجزائرية في شيء وتستمد منها الشرعية الكاملة في الدفاع عن التحرر من الاستعمار مهما كانت أشكاله وصوره. بول أوساريس.. مشوه تاريخ الثورة ومدافع عن نظرية التعذيب بامتياز وعلى النقيض من الثوري جون بول سارتر، يقدم الجنرال بول أوساريس شهادات حية عن الإجرام الذي مارسه خلال الثورة والتعذيب، وذهب إلى حد تشويه التاريخ عندما قام بول أوساريس بشنق العربي بن مهيدي بقميصه، حتى يصدر فكرة أنه انتحر ولم يستشهد، رغم أن شهادات المؤرخين الجزائريين وعائلة الشهيد العربي بن مهيدي تؤكد أنه استشهد رميا بالرصاص. ويعتز الجلاد بول أوساريس بشهادة الاغتيال في مذكراته ”أجهزة خاصة 1955 /1957” باعتبار أن العربي بن مهيدي الذي ألقي عليه القبض ليلة 15 إلى 16 فيفري 1957 كان يشغل منصب عضو لجنة التنسيق والتنفيذ خلال الثورة، ولا يستثني من الإشادة بالأعمال الإجرامية بتكليف أحد جنوده بقتل علي بومنجل. ويقول بول أوساريس، أن العقيد بيجار، الذي ألقى القبض على بن مهيدي عامله معاملة جيدة، وهو ما لم يتقبله أوساريس الذي اعترف أن القاضي بيرار الذي أوحى له بقتل العربي بن مهيدي وتقديم الحادثة للرأي العام على أنها حالة انتحار. وبعد ثلاثة أسابيع دار حديث بين أوساريس ماسو وترانكييه، حيث اتفقت المجموعة على استبعاد محاكمة بن مهيدي للانعكاسات التي ستحدثها على الرأي العالم العالمي المتعاطف مع الثورة. وبادر بول أوساريس بالتكفل بقتل بن مهيدي قائلا:''لقد قمنا بتصفية كثير من الفدائيين الذين كانوا ينفّذون أوامر بن مهيدي، وها نحن الآن محل تردد مدة ثلاثة أسابيع بخصوص مصير هذا الرجل!”. فقال الجنرال ماسو ‘'لكن بن مهيدي لا يمر هكذا''. فأضاف موجها كلامه لأوساريس ‘'افعل به ما تشاء‘'، واعترف أوساريس حينها أنه أصبح بحوزته الضوء الأخضر من الحكومة. ويروي رئيس فرقة المظليين، الجنرال بول أوساريس، بشاعة حادثة الاغتيال بالقول أنه اقتاد العربي بن مهيدي إلى مزرعة جنوبالجزائر العاصمة على بعد خمسين كلم، ثم وضعه في غرفة تشبه القبو ليقوم بشنقه بطريقة تصدر للرأي العام فكرة أنه قام بالانتحار، وهذا حتى يحرمه الشهادة التي يريدها المجاهدون في سبيل التحرر. ولا يكتفي بول أوساريس بنقل همجية القتل، حيث يؤكد أن المزرعة التي اغتيل فيها العربي بن مهدي تحولت لاحقا إلى مكان لدفن جثث الجزائريين والثوار، حيث يقول ”أصبحنا نستخدم المزرعة التي اغتيل بها العربي بن مهيدي. وذات مرة طلبت من ”الكوموندو” أن يقوم بحفر خندق عميق ودفنّا فيه عشرين جثة، منها جثة امرأة”. وعلى العموم ظل موضوع الثورة الجزائرية ورموزها أحد الطابوهات بفرنسا، وموضوع يتناول بكثير من التحيز رغم وجود استثناءات دعمت الثورة من منطلق إيمانها بأفكار التحرر. وحسب الباحث الفرنسي نيكولا هوبير، الخبير في مجال تاريخ الناشرين والنشر في فرنسا خلال الحرب في الجزائر التي تحدد زمنيا بين 1945و 1962، تم طباعة زهاء 1000 كتاب فرنسي عن الثورة الجزائرية طبعت في دور نشر فرنسية مختلفة، أغلبها كانت ضد ثورة التحرير لسيطرة الإدارة الاستعمارية على الوضع و دور النشر. وقد كانت الصحف هي التي أسست في بداية الأمر لنقل الفكر التحرري لدى الفرنسيين، مثلما يروي الدكتور بجامعة فرساي الفرنسي جوليان أج، وذلك بعدما أصبحت الصحف التي تحمل مقالات تؤيد استقلال الجزائر تواجه قيودا إدارية في التوزيع و النشر. وعلى العموم رغم مرور 52 سنة على استقلال الجزائر، لاتزال بعض الدوائر الفرنسية تنظر للثورة وكتاباتها كطابوهات محرمة، خاصة المثقفين المنضوين تحت أحزاب اليمين والأحزاب المحافظة بشكل عام، لتتقبل النخبة التي تنتمي لليسار الثورة أكثر وتتناولها بموضوعية وصدق حتى يومنا هذا.