نشرات الأخبار أصابتني بإجهاد عصبي يكاد يفسد حياتي، لا بد على الأقل من الابتعاد عن المكان ولو ليومين. تذكرت دعوة من صديق ربما كان هو المثقف الوحيد الذي يعمل بفلاحة الأرض. شددت الرحال إلى عزبته أو للدقة عزبة أسرته التي تقع في عمق محافظة البحيرة على بعد حوالي 200 كيلومتر من القاهرة. منطقة نفوذ الأسرة ومزارعها الكبيرة توجد في محافظة المنوفية شديدة الازدحام، لذلك قرر الباشا خريج جامعة أكسفورد الابتعاد عنها وأن يشتري هذه المزرعة ذات الألف فدان، وذلك عام 1948 ودفع في الفدان 128 جنيها مصريا، نعم، مائة وثمانية وعشرين جنيها ثمنا للفدان الواحد وهو نفس المبلغ الذي تدفعه الآن في مطعم درجة ثالثة مقابل وجبة غداء. المزرعة وبيت الأسرة أشعراني بأني أمشي في فيلم ريفي مصري قديم، تخيلت في لحظات كثيرة أنني سأفاجأ بزكي رستم نازلا من على السلم يشتمني أو يرحب بي، أو أن فردوس محمد ستقدم لي طعام الإفطار. أو أن ليلى مراد في عز شبابها ستطرق علي باب غرفتي في المساء وتقول لي في حياء ممتلئ بالإغراء: عاوز حاجة يا سيدي؟.. الغطا كفاية ولا تحب تتدفى أكتر؟ في الصباح ركبت الكارتة ومررت على العجول والأبقار، كان موعد تقديم وجبة الغداء، عدد من الجاموس والأبقار توقف عن الطعام وجرى نحونا، كانت تتطلع بدهشة لهذا المخلوق الغريب، وتحاول استكشاف ماذا جاء ليفعل في هذا المكان؟ إنها غريزة حب الاستطلاع التي تميز الكائنات الحية، الشيء الغريب هو نظراتها الطفولية الجميلة، قال لي صديقي: إنها تعي ما حولها، وتعرف جيدا لحظات النهاية ولذلك تقاوم بضراوة عملية صعودها الميزان التي تسبق ذبحها. عملية الميزان طبيعية وروتينية، غير أنها قادرة على معرفة عملية الميزان الأخيرة التي تسبق نهايتها ربما من رؤية الجزار، أو لعلها تدرك ذلك بطريقة لا نعرفها نحن. واصلنا طريقنا إلى اسطبلات الخيل، خرجت الخيل وأخذت تجري في الساحة الكبيرة في قوة وفرحة، هناك شيء ما يربطني بالخيل، بداخلي حصان مقيد عاجز عن الجري، بداخلي أيضا حمار أو عدة حمير لها قدرة هائلة على الصبر والتحمل غير أنها عاجزة عن أن تمدني بما أنا في حاجة إليه من جهل وبلادة. انتقلنا إلى فصل الحضانة التي أقامها صديقي بالإضافة لعدة فصول ابتدائي، حاولت إدارة حوار بيني وبين الأطفال وفشلت في ذلك، هم يخشون الحديث مع الغرباء، إنه الحذر الفلاحي القديم. في المدرسة الابتدائية جلسنا في غرفة حضرة الناظر، وتذكرت غرفة حضرة الناظر في مدرستي في دمياط في منتصف أربعينات القرن الماضي فقلت لنفسي: يا إلهي.. كم نحن فقراء الآن. تطرق الحديث إلى فصول التقوية التي أقامها صديقي لحماية أسر التلاميذ من الدروس الخصوصية، وكانت المفاجأة أن الناظر والمدرسين لا يعرفون شيئا عن فصول التقوية هذه، وثار صديقي: أنا أدفع فلوسا لهذه الفصول.. لمن تذهب؟.. ألو يا حاج طه.. أريدك أن تحقق في هذا الموضوع. بعد ساعتين قال لي صديقي: كل المدرسين يعملون في فصول التقوية، لقد أنكروا ذلك أمامك خوفا من أن تكتب ذلك، مع أنها عملية قانونية تماما. يا إلهي.. كم نحن كذابون هذه الأيام؟