لا أظن أن المطربة صباح التي رحلت الأسبوع الماضي, قد خاضت في السياسة بالمعنى العام لها, ولكنها بوصيتها بأن تكون جنازتها (دبكة) وفرحا عبرت - ربما دون أن تقصد - عن المشهد العربي السياسي الحالي بل الدولي, فهو في الحقيقة جنازة ودبكة في الوقت نفسه؛ حزن وفرح, زواج وجنازة. فإن كان البعض احتار في تفسير وصية الفنانة, فإنه سيكون أكثر حيرة عندما يقرأ المشهد السياسي العجيب حولنا. هناك بعض الأمثلة التي تدل على ذلك, ولكن المشهد أوسع بكثير من تلك الأمثلة. سوف أبدأ ببلد صباح - لبنان, فقد تشكل فيه حتى الآن أهم ظاهرة سياسية وأعجبها, وهي ديكتاتورية المُنتخبين, لا يوجد في أي من بلاد العالم مثلها: برلمان - خوفا من فراغ السلطة - يجدد لنفسه كما يشاء وفي الوقت نفسه يحافظ على فراغ السلطة في رأس الدولة! والجميع يحدثك, باحتجاج, عن التدخل الخارجي, وهم - المفترض - مجموعة منتخبة من الشعب تمثل مصالحه, كما يحدثك بعضهم عن غياب الدولة, ويستمر في الوقت نفسه عضوا محترما في برلمان انتهت صلاحيته. مثال آخر: الرئيس فلاديمير بوتين, يذهب في زيارة رسمية إلى تركيا, ويوقع اتفاقا للطاقة بأسعار أقل من أسعار السوق, لرفد اقتصاد الأتراك بما يحتاجونه منها, وفي الوقت نفسه تركيا عضو في حلف الناتو الذي يناصب روسيا العداء, وهي تفعل ما تفعل في ملف أوكرانيا, تركيا لا تخرج عن ذلك الإجماع الأطلسي, فوق ذلك فإن تركيا لا تألو جهدا في العمل على إزاحة نظام بشار الأسد, وتختلف في ذلك التوجه حتى مع أقرب حلفائها (أميركا) على التكتيكات المؤدية إلى تلك النتيجة, وتتعامل بأريحية مع أهم وأقوى مناصر للنظام الأسدي, وهي دولة روسيا البوتينية. في العراق, تحدث الجميع عن انسحاب الجيش العراقي المخجل أمام تقدم ”داعش”, ثم تبين أن ذلك الجيش هو (جيش على الورق), فهناك الآلاف من الجنود المفترضين, يقبضون مرتبات في العسكرية العراقية وهم أشباح! وتحارب الدولة العراقية ”داعش” - القوة الخارجة على الدولة, بقوات هي الأخرى خارجة على الدولة, مثل ”عصائب أهل الحق” و”فيلق أبو العباس”, التي بدورها تحارب خارج نطاق الدولة العراقية مع النظام السوري! إذا ذهبنا إلى مصر وتابعنا أحداثها وثورتها في 25 يناير (كانون الثاني) وما بعدها التي راح ضحيتها عدد من الضحايا, ثم تظهر لنا عناوين الصحف المصرية, بعد تبرئة مبارك وطاقم وزارة الداخلية السابقين الذين عملوا معه, لتقول تلك الصحف ”إذن, من قتل أولئك الذين سقطوا في الميادين؟!”. من يسأل هذا السؤال المحير؟ مشهد يكمل (الدبكة والجنازة), بصرف النظر عن التفاصيل, لا شك في أن هناك ضحايا ولا شك في أنهم قتلوا بفعل فاعل! أما الأمر الأكثر تعقيدا فهو حل المشكلات الاقتصادية التي تواجه المواطن المصري أو الأغلبية من المواطنين, الذين يرغبون في أمن اقتصادي معقول, إلا أن اضطراب الأمن العام, وتصاعد الهجمات الإرهابية مع تعقد المشهد السياسي, لا تجعل أمنية الأمن الاقتصادي قريبة المنال, واستقرار مصر ركيزة أساسية في استقرار المنطقة. في اليمن, يبدو تزامن الجنازة والدبكة أكثر وضوحا, فقد حقق اليمن, إبان ثورته الشعبية قبل 3 سنوات على نظام علي صالح, ثورة شعبية تكاد تكون سلمية في الغالب, ثم ينتهي الأمر إلى أن تسيطر مجموعة قليلة مسلحة على التيار العام اليمني وتستولي على الدولة أمام أنظار الدولة, وفي الغالب بدعم خارجي! واليمن يتجه الآن إلى التفكك, كما لم يتفكك في تاريخه من قبل, كان في اليمن حتى ربع قرن مضى دولتان. النتائج النهائية للصراع اليمني سوف تكلف آلاف الضحايا, وقد يأخذنا إلى 3 دول في اليمن وربما أكثر, متحاربة بعضها ضد بعض وغير متساكنة. المشهد الليبي أيضا يذهب إلى ذلك المنحى, فهناك مجموعة دول صديقة في الظاهر تتحارب بالواسطة من خلال مجموعات ليبية مختلفة, بل إن المشهد أكثر هزلا, فالقوى المختلفة تتجه الآن إلى التحالف مع بقايا نظام أطاحت به هي نفسها في السابق, هم بقايا نظام معمر القذافي, ومن يعتقد أن المشهد الليبي قريب زمنا إلى المحطة النهائية هو واهم أو يملك معلومات مغلوطة, ذلك المشهد سوف يرى تحالفات وحروبا متغيرة على مدار الأشهر والسنين المقبلة, وليس هناك أفق للسكينة الليبية, بسبب ضخامة المصالح وخصاصة الثروة النفطية, وسوف تقوم قوى ما دون الدولة, بضخ النفط الليبي بأسعار متهاودة إلى العالم من أجل تمويل مجهودها العسكري والسياسي, بل الأخطر أن الصراع في ليبيا سوف يفيض على دول الجوار وما بعد الجوار شرقا وغربا وجنوبا. أما إذا كان البعض يعتقد أن هناك (دبكة) فقط في تونس بسبب نجاح نسبي للعملية الانتخابية لمجلس الشعب, فعليه أن يعيد قراءة المشهد التونسي؛ ففي تونس - كما في غيرها من الدول التي أشرنا إليها - (جنازة ودبكة) في الوقت نفسه, بسبب شهوة مرض السلطة, فرغم النتائج التي تمت من خلال الانتخابات العامة, فإن التوافق على أجندة وطنية في ظل الانقسام الحاد الذي يشطر المجتمع التونسي, وترغب شرائحه في الاستحواذ على السلطة - هو أقرب إلى التمني منه إلى الواقع, ولعل الجلسة الأولى للبرلمان التونسي, وما حدث فيها من لغط, تشير إلى ذلك (الفرح والحزن) في وقت واحد. كثير من السياسيين الجدد مؤدلجون, وإن سايروا الأحداث مؤقتا, سوف يعودون إلى أدلجتهم من جديد, مما يوقع تونس كدولة في مأزق لا يختلف كثيرا عن مأزق شبيهاتها. المشهد العربي في حالة صيرورة, لا يستطيع أحد أن يدعي أن نهاية خط السير قد تم الوصول إليها, وهو مشهد مكون من نقيضين, وكل واحد منهما يريد أن يزيح الآخر ويحل محله, بسرعة ودون تأخير, لأن مرض السلطة متفشٍّ, مما يسبب ما يراه المراقب من تداعيات. في نهاية الأمر, حتى الساعة, الكل يفتقد رؤية واضحة للمستقبل؛ ليس البعيد فقط, ولكن القريب, كما يفتقد الإرادة لفعل ذلك. الجميع في سفينة واحدة تحمل أناسا يرقصون الدبكة, وآخرون يبكون الجنازة. رحم الله صباح. آخر الكلام: يبدو أن العرب دائما على وفاق مع خطواتهم المتأخرة!