هناك شح كبير في النشر العربي في مجال الكتاب غير الروائي، اللهم إلا إذا استثنينا من ذلك الكتب ذات العلاقة في الشأن الديني والطبخ، فتبقى المساحة المطلوب ملؤها بالإنتاج الجاد والمتنوع كبيرة جدا. ولذلك استمتعت كثيرا بكتاب جديد للغاية قرأته بنهم واستمتاع لما لصاحبه ومؤلفه من سمعة مهنية مميزة، ولموضوع الكتاب المهم والمثير آنيا. الكتاب الذي أتحدث عنه هو بعنوان “في طريق الأذى: من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش”، وهو من تأليف الإعلامي المصري المتألق يسري فودة، وصادر عن دار الشروق بمصر. الكتاب مكون من جزأين رئيسيين؛ الجزء الأول له علاقة رئيسية بالضربة الإعلامية والخبطة الصحافية الهائلة التي حصل عليها يسري فودة بلقائه مع خالد شيخ محمد ورمزي الشيبة مخططي عملية 11 سبتمبر (أيلول)، الذي حولها يسري فودة لاحقا إلى مادة ثرية متكاملة في حلقتين بعنوان “الطريق إلى سبتمبر” ضمن برنامجه الذائع الصيت الذي كان نقلة نوعية في الصحافة الاستقصائية والمعروف باسم “سري للغاية”. والجزء الثاني دخوله إلى سوريا والعراق في سنوات لاحقة لتغطية الكوادر والمجاميع المسلحة والمتشددة التي تقاتل في المنطقة والتي عرفت لاحقا باسم “داعش”. والكتاب الذي كتب بطريقة سلسة جدا وأسلوب مشوق للغاية، تتناقل بين صفحاته بشكل مثير وحماسي أحداث متلاحقة تشعرك وكأنك في رواية بوليسية بامتياز، وهذا يعود الفضل فيه إلى أسلوب يسري فودة المتمكن في مفردات كلماته وحرفيته وإبقاء العنصر الدرامي قائما حتى الوصول إلى التفاصيل والمعلومة التي يرغب هو في إيصالها إليك، ويبدو جليا استفادته من عمله في البرامج الوثائقية والتقارير الاستقصائية التي تجبر المعد والمقدم على إبقاء عنصر التشويق قائما إلى أقصى درجة الاستغناء التام عن كل عناصر وعوامل الإطالة والملل. يظهر يسري فودة في هذا الكتاب ويكشف نقاطا لافتة ومهمة عن مفاجأة القبض على رمزي الشيبة، ومن ثم خالد شيخ محمد، بعد بث المقابلة والدراما التي حصلت له شخصيا والشهور العصيبة جدا التي مر بها والخوف على حياته وعلى سمعته المهنية، ودور إدارة المحطة التي كان يعمل فيها، والحكومة، وتغير دفة توجه المحطة. ويكشف أيضا “أفول” تنظيم القاعدة بعد العملية الأكبر في أميركا وظهور “داعش” كالاسم الجديد لأهداف مختلفة تماما وبأسلوب محير وغريب وجديد. يثير يسري فودة في كتابه أسئلة يتركها للقارئ في البحث عنها ويراهن على القارئ الفطن للبحث عن الإجابة. تظهر شخصية يسري فودة كثيرا بين سطور الكتاب من خلال كلماته، فيظهر الساخر تارة، والصحافي تارة أخرى، والمسلم والمصري تارة ثالثة، والمقيم بالغرب المطلع على ثقافتهم تارات وتارات.. كل ذلك يتم بأسلوب سلس وممتع. الكتاب من أمتع ما قرأت في الفترة الماضية وهو يبين “قصة” لافتة لأحد أهم الإعلاميين المتخصصين في العالم الثالث، وهو بهذا الإصدار يرسخ اسمه بقوة في عوالم التميز، هو الآن في فترة استراحة طويلة وبعيدا عن شاشات التلفزيون، أراهن على عودته قريبا، فهو أنجح “الجزيرة” بامتياز، وكانت تجربته مع “أون تي في” في مصر مضرب المثل، على الرغم من توقيتها الصعب نظرا للظروف الدقيقة التي كانت تمر بها مصر والجدل الذي كانت تثيره حلقاته، ولكن ما كان لأحد أن يجرؤ على أن يشكك في قدرات أو مهنية الرجل الذي كشف عن الفجوة الهائلة الموجودة في “الحرفة” و”أصول الشغل” بينه وبين غيره في الإعلام المرئي. أتوقع وبقوة أن يحتل كتابه قائمة أحد أهم الكتب مبيعا، نظرا لأن المادة ثرية جدا والموضوع “حي” ويستطيع القارئ التفاعل معه على نشرات الأخبار كل ليلة. “في طريق الأذى” كتاب ثري وممتع أحضرت - شخصيا - منه نسخا كثيرة وزعتها على الأصدقاء وأنصح بقراءته وبشدة.