بين القرن الثامن عشر، عصر مقولة الفيلسوف الفرنسي فولتير ”قد أختلف معك في الرأي ولكني على استعداد لأن أموت دفاعا عن حقك في إبدائه”، والقرن الحادي والعشرين، عصر التسييس المتفاقم للإيمان الديني، فسحة زمن أهدرت في محاولات عبثية للتوفيق بين حرية الرأي المطلقة و”حرمة” الإيمان الديني. من نافلة القول أن الحريات لا تتجزأ. ولكن حادث الاعتداء الدموي على مجلة ”شارلي إيبدو” الفرنسية في باريس مؤشر مفجع على أن بين حرية التعبير عن الرأي وقدسية المعتقد الديني عند البعض فارقا - ولا نقول هوة - يصعب ردمها. مع ذلك لا بد من التساؤل: لمصلحة من تضخيم أبعاد جريمة الاعتداء الدموي - المستنكر قطعا - على مكاتب مجلة ”شارلي إيبدو” وبشاعتها لا تقاس بفظاعة المجزرة الأسوأ التي ارتكبها أندرز بيرينغ بريفيك في النرويج، عام 2011. وذهب ضحيتها 77 قتيلا؟ ألأن دافع الأولى التطرف ”الإسلامي” والثانية التطرف العرقي؟.. والتطرف علة واحدة مهما كانت هويتها. مقلق بالنسبة لمسلمي أوروبا بوجه خاص، أن يقع الاعتداء على المجلة الفرنسية في وقت يبدو فيه المناخ السياسي لمجتمعاتها ”مشحونا” ضد المسلمين. ويتجلى تعبيره الأبرز بوضوح في تنامي التيارات المعارضة ”للمهاجرين” الجدد، وخصوصا مهاجري الدول الإسلامية. مجزرة النرويج عام 2011 دليل كاف على أن الإرهاب ليس حكرا على المسلمين. وتصح في دعاته مقولة فولتير: ”إن الذين يجعلونك تعتقد بما هو مخالف للعقل قادرون على جعلك ترتكب الفظائع”. إلا أن المؤسف أن الخلفية السياسية لمشاعر العداء الأوروبي للمسلمين لم تعد تنقصها أدلة دامغة: مجازر طالبان في أفغانستان وباكستان وحضارة بوكو حرام في نيجيريا و”إنجازات” داعش في قطع الرؤوس والحروب العبثية في كل من اليمن وليبيا. من الصعب تجاهل ”مساهمة” تنظيمات شاذة تدعي في الإسلام معرفة في الإساءة إلى صورة الإسلام الحقيقي. ولكن وقوع مجزرتين للحريات في دولتين أوروبيتين ديمقراطيتين (النرويجوفرنسا) في ظرف 3 سنوات يبرر التساؤل عما إذا كانت الديمقراطية الأوروبية كافية، بحد ذاتها، لضمان حرية التعبير، من جهة، ومن جهة ثانية مراعاة قناعة أقلية وافرة من مواطنيها بأن للإيمان الديني ”حرمة” تجعله - كامرأة قيصر - فوق الشبهات والانتقادات. لا يحتاج الجمع بين الحريتين إلى الحد من الحريات الصحافية بقدر ما يحتاج إلى ممارسة مسؤولة لهذه الحريات، فالمجتمعات الديمقراطية تتيح مجالات واسعة لوسائل الإعلام للخوض في جدل رصين، وحضاري، حول كل المعتقدات الفكرية بما فيها المعتقدات الدينية. ولكن إذا كان أسلوب مجلة ”شارلي إيبدو” الاستهزائي مقبولا، وربما محببا في فرنسا، فهو أسلوب لا تستسيغه، حتى الآن، الذهنية الشرقية وتحديدا المتدينة. هذا إذا ضربنا صفحا عن قناعة بعض الإعلاميين بأن تحريك ”شارلي إيبدو” للنعرات الدينية والعرقية يعود إلى خطها السياسي لا أسلوبها فحسب. وبالفعل، اعتداء الأربعاء الماضي لم يكن الأول في تاريخها: في عام 2006 استحقت انتقاد أعلى مرجع فرنسي، رئيس الدولة آنذاك، جاك شيراك، لإعادتها نشر رسوم كاريكاتيرية اعتبرت مسيئة للإسلام، نقلتها عن صحيفة دنماركية رغم ما أثاره نشرها من ضجة سياسية وإعلامية واسعة. وفي عام 2011 تعرضت مكاتبها في باريس للحرق إثر نشرها مقالا يتعرض للإسلام. قد لا يكون من التجني على مجلة ”شارلي إيبدو” اتهامها بالترويج لمشاعر ”الإسلاموفوبيا” في سوق واعدة في الدولة التي تحتضن الجالية الإسلامية الأكبر في أوروبا. وقد يكون لافتا في هذا السياق أن تعمد المجلة إلى إبراز مؤلف الروائي ميشال هيوللوبك الجديد بعد 3 أيام فقط من طبعه، وتنشر ”رؤيته” لما يتوقعه من انقلاب سياسي يؤدي إلى ”أسلمة” فرنسا بحلول عام 2022. وبالتالي إلى انهيار ”عصر التنور” فيها واندماجها، لاحقا، بدول ساحل البحر المتوسط الأفريقية. اعتداء باريس قد يكون عملية ترهيب مقصودة لفرض معيار من الرقابة ”الذاتية” على صحافيي فرنسا ورسامي الكاريكاتير. إلا أن حصيلته السياسية الجانبية قد تصبح عكس ما ابتغاه المعتدون: التضييق على حريات المسلمين.. لا الإعلاميين.