ما زلنا نتذكر جيدا قبل سنوات وبالضبط عام 2004 كيف وضعت آسيا جبار الأديبة والمفكرة الفرنكوفونية (ذات الأصل الجزائري) تحت مزيد من الأضواء، وهي اللامعة أصلا كواحد من المرشحين بقوة لجائزة نوبل للآدب، نظرا لقيمة أعمالها، والتي قيل أيامها أنها بلغت الآفاق. منذ ذلك التاريخ الذي تصدعت فيه رؤوس الجزائريين بالخبر، والسجال بينهم لم يتوقف حول وطنية هذه الكاتبة ووطنية أعمالها بالضبط، مثلما حدث يوم أعلن قبل ذلك بسنوات عن ترشيح محمد ديب الجزائري الأصل كذلك وصاحب الثلاثية الشهيرة (البيت الكبير -الحريق -النول) وغيرها لذات الجائزة، ونذكر كذلك كيف احتدم السجال الفكري ذاته بين من يقول إن الرجل قد عاش معظم عمره تقريبا في فرنسا وكتب بلغتها وحمل جنسيتها، وبالتالي فإن الجائزة لو كانت من نصيبه فلن تكون إلا فرنسية بامتياز، ومن يقول غير هذا على اعتبار أن تلك الأعمال قد عبرت ومنذ أكثر من سبعين سنة عن هموم وطنية بحتة، ولو بلغة فرنسية (وحدها كما يبدو كانت متاحة له) وكلا الأديبين -لمن لا يعلم - من الذين سحرهم بريق الفرنكوفونية بكل ما حمل فاندمجا فيها بوعي أو بغير وعي، وغابا عن مجتمعهما طويلا.. ولكن، يبدو أن محمد ديب قد استفاق وإن في أرذل العمر (والكتابة أيضا)، حيث صرح قبيل وفاته بقليل قائلا: “لقد ندمت على عمر أمضيته في الكتابة بلغة الآخرين”. أما آسيا جبار التي هي الأخرى في أرذل العمر هذه الأيام، وربما في أرذل (الرواية) كذلك، فما زالت تجاهر بعشقها الفرنكوفوني إلى حد الذوبان.. وعندما ذكّرتها بمقولتها الشهيرة في سيتينيات القرن الماضي: “إن كتّاب إفريقيا الشمالية بالفرنسية يظلون إلى حد كبير خارج الموضوع، وخارج الميلاد، وبعيدا عن شعوبهم” في مقالة لها نشرت عام 1965، أجابت بأن هذا الكلام لا يزال وسيبقى صحيحا، ولما سألتها كيف اقتربت هي من شعبها وبلادها من خلال ما أبدعت، قالت إنها حاولت تقريب الآخرين من مجتمعها، وهي هنا تذكرنا بالمغربي الطاهر بن جلون الذي قدم مجتمعه للغرب كفولكلور يتسلى به عند الحاجة ولا شيء آخر، وطبعا كلام كهذا يظل عاما وغير مقنع، وقد رد على أمثاله ذات يوم الأديب المرحوم مالك حداد عندما توقف عن الكتابة بالفرنسية مباشرة بعد الاستقلال، وراح يقترب من اللغة العربية التي عدّها سلاح معركتي الثقافة والتنمية في الوطن المحرر، بدل سلاح الفرنسية الذي كان يواجه به المستعمر. لم يدم حواري طويلا مع آسيا جبار التي كانت ضيفة على جناح جامعة السوربون في معرض أبو ظبي الأخير للكتاب، نظرا لارتباطاتها الرسمية وكثافة برنامجها، وهي التي تزور المنطقة العربية لأول مرة! وعلى رغم قصره لم يكن الحديث معها سلسلا وشائقا (وكأن من خصال القامات الكبيرة ألا يكون لديها وضوح)، وبالأخص عندما نحا الكلام معها باتجاه هذا الإخلاص المفرط للدور الذي اختطته لنفسها، وهو استمرار وتعميق الفعل الفرنكوفوني بكل محمولاته وأمانة الدفاع عنه (كمخلص).. والذي في رأينا يناقض الكثير من أقوالها ومواقفها اتجاه اللغة العربية بالذات، وما تحمل، وهي القائلة ذات يوم: “إن التمزق بين تعبيرين هو عرج بالرجلين معا” في وصف لحالة الكتاب (مثلها) الذين يتخبطون بين لغتهم الأم ولغة ثقافتهم (الفرنسية)، غير أن هذا العرج بالرجلين الذي تتحدث عنه نجده ينتفي لديها فيما بعد، لتستقر تلك الفرنسية وحدها خيارا وكأنها (أي الفرنسية) تمثل مفتاح الإبداع، والتحرر كذلك، وإلا فما معنى قولها في مداخلتها الأخيرة في معرض الكتاب “كل المحاولات الأولى للنساء العربيات في الخروج باستخدام لغة غير عربية انطوت على خطر النبذ المزدوج، أولا نبذ الكتابة ذاتها ولو كانت متلعثمة، يتبعها نبذ الجسد الذي نطق بها.. إن الكتابة بلغة مختلفة تكاد تتحول في نظر البعض إلى ما يشبه ممارسة الجنس مع إنسان من دين غير دين الأجداد” انتهى النص... لا نعتقد أن أحدا من العرب أو غير العرب من الذين يكتبون بلغات الآخرين قد قالوا أمثال هذا الكلام، فالأمر طبيعي وهو متاح، بل وراسخ في كل ثقافات العالم وبينها الفرنسية. وإن كان يأخذ أحيانا شكل (الموضة) أو (المباهاة) في بعض الأوساط العربية مع الأسف، لأسباب لا مجال للحديث فيها هنا. ولا نعتقد كذلك أن أديبة بحجم آسيا جبار بحاجة إلى حجج ظالمة وقاسية كهذه حتى تجد لنفسها مبررات أخرى لهذا العشق الفرنكوفوني الذي لا يزال يتلبسها كلما تقدم بها العمر والتجربة. وهي التي قالت كذلك في ذات الأمسية: “وأن يتحول خلع الحجاب إلى ضلال فالفضل في ذلك يعود إلى هذا الملاذ.. إلى اللغة الفرنسية بصفتها قراءة أو دروسا، وبالتالي صمتا قبل أن تتحول إلى حرية”. ثم تتابع: “عزلة الرحيل، الخروج من جناح الحريم في مستهل الخمسينيات لمئات أو لبعض الوفود من نساء المغرب العربي مثلي، وبفضل دراسة اللغة الفرنسية كان يعتبر حظا سعيدا” انتهى النص.. وأستسمح القارئ الكريم بالعودة قليلا إلى الوراء للاقتراب أكثر من هذه القامة الأدبية الكبيرة. والتي عرفها الغرب وأمريكا أكثر بكثير من الوطن العربي. آسيا جبار واحد من الأقلام المؤسسة للعمل الروائي الجزائري (وإن بالحرف الأجنبي) كما أسلفنا، وهي كذلك من أهم الكتاب الذين واجهوا المستعمر الفرنسي من خلالها (أي الرواية) وبعض الشيء من خلال المسرح، والشعر كذلك. إنها صاحبة رواية “العطش” التي أصدرتها عام 1959، وهي في الثالثة والعشرين من العمر، ولها كذلك رواية “أبناء العالم الجديد” التي تضم نماذج من النساء المناضلات في عالم ثورات منتصف القرن العشرين، وقد أصدرتها عام 1962، عام استقلال بلادها الأصلية، حيث تذكر فيها الكثير من الأدوار التي تقوم بها المرأة المناضلة.. وقد جاء في الصفحة 113 أن أحد الجنود الفرنسيين مثلا يعترف لزميل له بالقول: “إنهن شر من الرجال”. ولها كذلك رواية “القبرات الساذجات” الصادرة عام 1967، والتي تدعو فيها إلى التمسك بثقافة الوطن، وقد جاء في الصفحة 89 أن البطلين كريم ونفيسة يقرران تعلم العربية (اللغة الأم) رافضين غيرها، لأن الفرنسية هي لغة الأغراب. ولها كذلك مسرحية شهيرة عنوانها “احمرار الفجر”، إضافة إلى مجموعة شعرية عنوانها “قصائد إلى الجزائر السعيدة” هذه الأعمال أصدرتها وهي لا تزال تقيم في الجزائر أستاذة جامعية، إلى أن غادرت بشكل شبه نهائي أواخر ستينيات القرن الماضي. وكما نلاحظ أن أعمالها هذه تناولت القضية الوطنية بكل أبعادها، سواء الكفاح ضد المستعمر أو ضد التسلط الديني كما رأته، أو محاربة ما كان يسود في المجتمع من الخرافات. وككل الأدباء الوطنيين كان لآسيا جبار الكثير من المواقف والمساهمات والأقوال التي اشتهرت بها مثل قولها “إن وطنا بلا ذاكرة هو امرأة بلا مرآة، إنه رجل يسعى في الظلام”. وهي القائلة كذلك في مسرحية “احمرار الفجر”: “كيف يمكن للإنسان أن يكون خائنا وأبا في نفس الوقت” في إشارة إلى بعض الخونة الذين يبررون تعاملهم مع المستعمر لقاء المال الذي يعيلون به أبناءهم، وفي ذات المسرحية يقول الأعمى لرفيقه المحكوم بالإعدام مثله: “أعرف الآن أن الإنسان يقابل الموت بشجاعة الرجال في حالتين، يواجه الموت وهو يحمل السلاح للدفاع عن نفسه، ولكن إذا لم يكن لديه سلاح كما هو الحال بالنسبة إلينا الآن، تصبح الكلمات إذا هي سلاحه”. وتقول في الصفحة 219 من روايتها “أبناء الجيل الجديد”: “إن السجن هو المكان الذي نكتشف فيه إخوانا لنا ونصبح فيه رجالا”. هذا بعض من الإرث الجميل والمواقف الراقية التي كانت لهذه الأديبة الكبيرة في سنوات السيتينات وقبل أن تغادر للعيش في فرنسا كما أسلفنا. وبعد أن استقرت هناك ظلت مبحرة في الرواية، تدور في فلك المرأة وفي قضية تحريرها من قيود المجتمع (وإن من بعيد) تكتب بنفس انتقامي واضح من الرجل العربي المتسبب برأيها في كل ذلك، وفي كل ما يحمل من إرث. نهج وجدت ضالتها فيه كما يبدو في ظل مناخ حرية آخر خارج وطنها الأصلي. وعلى الرغم من أن كل عمل لها له مغامرته ورحلته الفلسفية بين الأمكنة والأزمنة التي عايشتها، فإنها لم تحاول كما تصرح دائما تقريب المسافات مع ذلك المجتمع، وتلك الخلفية التي فيها انطلقت وتفاعلت في الكتابة الجديدة، والتي اصطحبتها معها إلى العالم الآخر الذي قررت العيش فيه، ومنه أعطتنا رواية “الحب والفانتازيا” عام 1985، ورواية “ظل السلطانة” عام 1987، وغيرهما وكلها أعمال يحاكي بعضها بعضا أو يكاد، حيث تكون البطلات نسخا متطابقة لا دور لهن تقريبا سوى مصارعة الرجل الذي تنظر إليه آسيا جبار دائما بشيء من الاحتقار، لدرجة أنها لا تذكره أبدا بالاسم، فهو دائما ذلك ال(هو) فقط، وكذلك روايتها الأخيرة “نساء الجزائر”، والتي أسستها كذلك على نفس النسق -مجتمع متخلف- لا تزال كما تدعي تصارع جانبا من التراث لإخراجه منه. ويبدو من حضور المرأة المغبونة بكثافة في كل روايات هذه الأديبة، وبالأخص بعد أن غادرت هو انعكاس لإحساس ذاتي لديها بهذا الغبن، وإشارة إلى هذا يقول الدكتور حسن مدن في إحدى مقالاته عن كتابة المرأة العربية: “إن المرأة المبدعة وهي تتحدث عن القمع مثلا في المجتمعات العربية، لا تجد أمامها من مهرب سوى دمج معاناتها الخاصة كامرأة مع المعاناة العامة للجميع”. مجتمع تكتب عنه آسيا جبار وهي تقيم بعيدا عنه منذ أكثر من أربعين سنة، ولا رغبة لديها في زيارته، كما صرحت لي وأنا أسألها عن هذا الغياب الطويل عن الوطن، ومن هنا يأتي التساؤل، كيف يمكن لمن يقيم كل هذه المدة في فرنسا أو في غيرها أن يكتب أبدا عن ذلك البلد وما يحصل فيه من تغيرات تكاد تكون يومية، وهل الذكريات وحدها كافية لكتابة عمل ناجح عن مجتمع تنقلب فيه الأمور بشكل متسارع، كبقية مجتمعات الدنيا؟ آسيا جبار ما زالت تصر، وبعد كل هذا العمر، على التركيز على فن الرواية حصرا، لما له من خصائص ترصد بها كما تقول معاناة الإنسان. ولا شك أنه فضلا عن موهبتها، فإن ما خلق لديها هذا التميز الروائي الذي عرفت به هو المستوى العالمي من الحرفية والجدية في التعامل مع ما تكتب على نحو لافت. بقي فقط أن نسأل عن درجة أو مقروئية تلك الأعمال لدى الجزء البسيط (المفرنس) من المجتمع الجزائري، والذي لا يمثل فئة واضحة اليوم بعد أن عاد الوطن إلى لغته، وأين في هذا الوضع توجد النساء اللائي تكتب لهن أو عنهن؟ لا أحد ينكر ريادة آسيا جبار في الكتابة الروائية النسوية الجزائرية والتأسيس لها بالموازاة مع الأديبة الكبيرة زهور ونيسي، فكل منهما بدأت مبكرة وقبل اندلاع ثورة التحرير حتى، ولكن بقلم يختلف عن قلم الأخرى، وإن كان الهم يكاد يكون واحدا، غير أن القلم العربي الذي تكتب به زهور يبدو أكثر عقلانية وإنصافا لمجتمعها وظروفه، ليس فقط لأن صاحبته تعيش بين أهلها، ولكن يبدو أن للغة العربية دورا آخر في إبراز هذه الصورة. ومهما يكن فإن آسيا جبار تبقى ذاكرة مهمة من إبداع الجزائر، تستحق منا الكثير من عبارات الوفاء، على الرغم من إصرارها على عدم زيارة الوطن الأم والتقاء مثقفيه وأجياله. آسيا جبار وجه لم تنحسر عنه الأضواء على رغم السن والتعب والترحال، ما زالت تتصرف كنجمة تسعى الكاميرات إلى ملاحقتها، هذا بالضبط ما نتمنى أن يحدث مع كبارنا، فالأديب حين يكبر في السن يعلو شأنا كذلك في قلوب الناس، ويزداد دائما الشوق والحنين إلى معرفة أخباره، والاطمئنان إليه كأنه فرد من العائلة. وختم القول: ستظل قيمة أعمال هذه الأديبة الكبيرة ناقصة إذا لم تترجم إلى العربية، حتى تقترب من القارئ والناقد العربيين، لعل بعض الإنصاف ينالها بعد كم التجاهل الذي طال نتيجة لهذه النزعة التغريبية التي اتسمت بها. وإننا نعتقد أن زيارتها إلى أبو ظبي وطرح ما لديها أمام نخبة مهمة ممن عرفها أو سمع عنها، هو كاف لفتح هذه النافذة المهمة على عالمها وعالم الكثير من المبدعين العرب الكبار الذين كتب عليهم التعبير بلغات الآخرين وهم كثر كما نعلم