أزعم أن الميل العميق للتمثل بالتاريخ، لا سيما عند مسلمي الشرق الأوسط، يمثل انعكاسا لهوية متأزمة. تقديس رجالات التاريخ واعتبار مجرياته معيارا يقاس عليه الحاضر، يؤدي بالضرورة إلى إنكار الحاضر واعتباره نكسة. رغم أن التحليل الواقعي يؤكد عكس هذا تماما. صحيح أن المسلمين لم يعودوا سادة العالم، لكن انتشار الإسلام اليوم، وما يملكه أتباعه من علم وثروة وقوة يفوق كثيرا ما كان لديهم في ذروة مجدهم الغابر. اعتبار الماضي نموذجا، يصدق في شيء واحد فقط، هو تفوقنا السابق على غيرنا. تصوير الإسلاميين والقوميين للغرب كعدو مطلق أو كسبب لفشلنا الحضاري، يعبر في أحد وجوهه عن تلك الهوية المتأزمة، التي لا تتشكل في سياق وصف مستقل للذات، بل في سياق التناقض المقصود أو العفوي مع ”الآخر” الغربي الذي يوصف أيضا بالكافر. أما السبب المباشر لتأزم الهوية فيكمن في عجزنا عن المنافسة، وهو ليس عجزا عضويا أو تكوينيا. إن سببه كما أظن هو عدم الرغبة في دفع الثمن الضروري للتمكن من المنافسة. هذا الثمن هو ببساطة التماثل الأولي والتعلم ثم إعادة إنتاج القوة، تمهيدا لمنافسة الآخر على قدم المساواة وربما تجاوزه. معظم النزاعات الدائرة حولنا تحمل هوية تناقضية. هذه نزاعات يحركها أو يعمقها تناقض هوياتي، يجري تبريره بمبررات دينية أو قومية. ولذا فهي تسهم في تعزيز المفاصلة بين الدين والعصر، وتشدد على ربط الدين بالماضي بدل الحاضر، وبالتالي فهي تعزز اغترابنا عن عالمنا الواقعي. من ملامح الهوية المتأزمة أيضا أنها تحمل في داخلها ازدواجية مدمرة. تؤكد بحوث ميدانية أن معظم عرب المشرق يعتبرون ”الغرب” لا سيما أميركا والولايات المتحدة عدوا حضاريا، أو على الأقل، مصدر تهديد. لكن أرقام المبتعثين السعوديين مثلا تشير إلى أن 67 في المائة منهم اختاروا الدراسة في هذه الدول، وعلى الخصوص الدول التي شاركت في حرب الخليج (1991) التي اعتبرها بعض الدعاة ذروة الهجوم الغربي (النصراني) على قلب العالم الإسلامي. ومن الطريف أن كثيرا من أولئك الدعاة رحبوا باختيار أبنائهم لتلك الدول بالذات للدراسات العليا. هذه الازدواجية تعني أننا نكره الآخر (الغرب) ونعتبره عدوا، بل ونرحب بمن يقاتله. لكننا بموازاة ذلك نحتفي به ونحب أن نكون مثله. هذا يوضح أننا لا نشكل هويتنا، أي معرفتنا بذاتنا وتصورنا لذاتنا بطريقة إيجابية تنطلق من الرغبة في أن أكون كما أحب أو كما يليق بي، أو - على الأقل - أن أكون كما أستطيع. على العكس من ذلك فإننا نشكل هويتنا من خلال مناظرة الآخر، أي في سياق التعارض معه والتباعد عنه، ولو على المستوى الشعوري، مع رغبتنا في تقليده على المستوى المادي. خط التأزم هذا يحيل نقد الغرب إلى مجرد كلام للتسلية وتبرير المواقف، لكنه على أي حال يبقى فعالا في تعطيل التفاعل الإيجابي البناء مع الغرب المعرفي والحضاري، تفاعل يقود إلى التعلم العميق المؤدي للقدرة على المنافسة فالاستقلال. من الناحية الواقعية لسنا قادرين على مناوأة الغرب، ولا يوجد بيننا من يعتقد - جادا - أنه قادر على التحرر من الحاجة إليه في المدى المنظور. ومثل هذا الشعور المتناقض يحول التصارع إلى جدل مؤرق داخل النفس، الأمر الذي يتطلب تنفيسا من نوع ما. ولسوء حظنا فقد استبدلنا المنازعة المكلفة مع الغرب بمنازعة تبدو سهلة مع أطراف أخرى في المجتمع، نختلف معها سياسيا أو فكريا. العجز عن مناوأة الغرب يدفع دعاة الصراع إلى مناوأة من يصفونها بالنخبة المتغربة أو المتأثرين بالغرب أي - بعبارة أخرى - تحويل الصراع الخارجي المكلف إلى صراع داخلي يبدو قليل التكلفة. زبدة القول أن الهوية المتأزمة تفسر الكثير من الصراعات الاجتماعية والسياسية، التي يستعمل فيها الدين أو القومية كشعار أو كمبرر. إنها تعبير عن إرادة للتحرر من ”آخر” تجاوزنا، ونشعر بالعجز عن مجاراته. لكن عجزنا عن دفع الثمن الضروري للمنافسة جعلنا ننشغل قاصدين أو غافلين، بصراعات داخلية بديلة، تشير إلى العدو لكنها لا تصل إليه.