هل هناك ما هو أصعب من الإجابة عن سؤال ظل معلقا في عقول البشر منذ بدء الخليقة إلى غاية يومهم هذا؟ سؤال يتعلق ببدء التكوين وحقيقته الغائبة كسرّ أزلي؟ في روايته "كتاب الماشاء.. هلابيل النسخة الأخيرة"، والصادرة مؤخرا عن دار المدى العراقية في أكثر من 230 صفحة، يطرح الروائي الجزائري سمير قسيمي السؤال الذي ظل محرما، مقصيا ومستهجنا، أو حتى محسوم الإجابة عند البعض، ثم يمضي في عمل سردي استثنائي محاولا الإجابة عنه، تجاوزا، بالتوليف بين عوالم تخييلية موزعة بين أزمنة مختلفة، متباعدة ومتمايزة جدا. بدءا من العنوان، الما شاء، ووصولا إلى محتوى ما أملاه الوافد بن عباد - صاحب الحقيقة إلى خلفون بن مدا، موثقها والشاهد عليها من بين حوارييه، والتي تضمنتها مجموعة ألواح قديمة لا تقدّر بثمن، مخطوط عليها ما من شأنه أن يكشف سرّ البشرية الأول.. كانت المشيئة تحفظ تلك الحقيقة - مدونة - عبر قرون طويلة، وتدخر لثلة قليلة من البشر، ربما لم يكونوا معنيين بها أصلا، معرفة الإجابة عن سؤال بعمر البشرية. تشق الحقيقة التي تضمنها الكتاب طريقها الوعر، في الزمان وفي المكان، ويصنع لها الروائي مسلكا ينطلق بالزمن معكوسا وفي المكان مشتتا وموزعا على أكثر من أرض وتحت سماوات كثيرة. من نهاية العقد الأول لقرننا الحالي، إلى ما قبل بداية الغزو الفرنسي للجزائر وحتى ما بعد سقوطها، وبين مرسيليا وطولون والجزائر العاصمة وقسنطينة، يرسم سمير قسيمي الشوط الأول من مسار الوصول إلى الإجابة واضعا إحداثياتها الزمانية والمكانية، ومعتمدا على شخصيات أوكل لكل منها مرحلة أو خطوة يقطعها كتاب الماشاء، بدءا بميشال دوبري، الباحثة الشابة التي قادها فضولها العلمي للبحث في شخصية مترجم رافق الحملة الفرنسية على الجزائرية في بدايتها، هو سيباستيان دو لاكروا، لسان ما بقي حيا من ضمير الأمة الفرنسية بعدما رآه من مجازر وفظاعات بحق الأهالي، المتآمر أحمد بن شنعان، الربيعة شيخ قبيلة العوفية-شرق العاصمة الجزائر -قبل أن تبيدها القوات الفرنسية، أحمد باي حاكم بايلك الشرق وقائد المقاومة في قسنطينة، وبيّن في تسلسل سردي يتسم بالثراء والتكثيف كيف أن خصوصية المرحلة وظروف التاريخ المحلي ووقائعه تحدد على نحو ما طرق الوصول إليها، دون أن تؤثر على جوهرها ولا على وعي الفاعلين بأهميتها. وبعد فجوة زمنية، تعود الحقيقة لتأخذ دفعا جديدا نحو الظهور، ويبدأ شوطها الأخير نحو التجلي، لكن هذه المرة، وأكثر من السابق، على أيدي أبطال لم يكونوا معنيين بها، مسحوقين ومنبوذين، من طينة السائح زير النساء وشقيقه قدور فراش القاتل ونوى شيرازي بائعة الهوى وبوعلام عباس التائه بلا معالم وغيرهم، انتظموا كلهم، ودون إرادة منهم في البداية، في الخط الزمني والمكاني الواصل إلى أن يطلع الناس على حقيقة وجودهم وكيف بدأ، وإن اصطدم ذلك مع عقائدهم ومسلماتهم. كتاب الماشاء رواية للمتعة والبحث العميق، حيث السرد زاخر بالفلسفة وبالتصوف وبالتاريخ، وحتى بجانب بوليسي، اهتم فيها قسيمي بهندسة النص وبنائه، واحتفظ بقدرته على شد انتباه القارئ إلى الأخير، وجعل من كل شخصياته بطلة، رئيسية الحضور لا يمكن الاستغناء على أي منها. إذ نجد كل شخصية في هذه الرواية بطلة، فاعلة، ومساهمة في وصول الحقيقة أو معرقلة لها، وإن اختلفت في بيئتها ودينها ولغتها، ومستواها العلمي والثقافي، يريد الروائي القول إن الجميع معني في نهاية الأمر بمعرفة ما يشفي غليل السؤال. ومع ذلك كانت روح النص تشي بأن الحقيقة المرجوة تتجاوز المكان والزمان والأشخاص.