في الرابع عشر فيفري الماضي أطفأت قناة "الحرة" شمعتها الرابعة، ويبدو أن لا أحد انتبه للأمر أو اكترث به، فالقناة الأمريكية الناطقة بالعربية التي قال مسؤولوها أنها ستغير وجه الإعلام العربي في الشرق الأوسط وتؤسس لمعايير ذهبية في العمل الإعلامي يفتقر إليها الآخرون، ظلت تراوح مكانها طيلة السنوات الثلاث من عمرها، وعجزت أن تكون رقما فاعلا في المعادلة السياسية والإعلامية العربية لا مجرد صفر أضيف إلى شمالها• لم يكد يمر عام على غزو العراق وسقوط بغداد، حتى أطلقت الإدارة الأمريكية قناتها الناطقة باللغة العربية، فالأمريكيون يدركون جيدا أنه لن يكون بوسع آلتهم العسكرية عمل الكثير ما لم يكن ثمة بالموازاة معها آلة إعلامية موجهة للمنطقة• وعن هذا التوقيت يقول نظام المهداوي وهو إعلامي فلسطيني مقيم بأمريكا عمل مراسلا للجزيرة سابقا، أن "الحرة" انطلقت كقذيفة في أوج الحرب على العراق، وكان ذلك أول فشلها إذ تلقفها المواطن العربي مثل المناشير التي تقذفها الطائرات الحربية• وكان من بين أبرز أهداف المحطة الوليدة العمل على تحسين صورة الولاياتالمتحدةالأمريكية القبيحة لدى المشاهد العربي، وفرض وجهات النظر الأمريكية بما فيها تبرير احتلال العراق، وتحويل الأنظار عن قناة "الجزيرة" التي صرح المسؤولون الأمريكيون في غير ما مناسبة أنها تقف حائلا دون بلوغ أهدافهم في المنطقة• وبالنظر إلى هذه الأهداف المعلن عنها صراحة والتي يخرج معظمها عن دائرة الأهداف الإعلامية إلى دائرة الأهداف الدعائية السياسية كان من المنطقي أن يتنبأ الكثيرون بفشل "الحرة" حتى قبل بدايتها• لكن ورغم ذلك فقد كان على أي متابع موضوعي ألا يتسرع في إصدار الأحكام القبلية بفشل المحطة مكتفيا بالعاطفة دون استناد إلى المعطيات المتوفرة على الأرض، فالشعارات والخطابات والآراء التي تذهب إلى أن المواطن العربي يرفض جملة وتفصيلا كل ما يأتي من قبل أمريكا ليست كلها صحيحة، فالسينما والأدب الأمريكيين وبعض المنتجات الاستهلاكية الأمريكية على سبيل المثال تلقى رواجا منقطع النظير في المنطقة العربية، كما أن القنوات الإخبارية الأمريكية وعلى رأسها "سي ان ان" و "آي بي سي" تعتبر مصادر رئيسية للأخبار في العالم العربي، ومن هنا فإن احتمالات نجاح محطة إخبارية أمريكية ناطقة باللغة العربية لن تكون معدومة تماما إذا ما كانت في مستوى تلك المحطات• لا شك أن كثيرا ممن أصدروا الأحكام بفشل المحطة أو حتى فتاوى بتحريمها، كانوا مدفوعين برغبة حقيقية في فشلها خوفا من تأثيرها السلبي على الوعي الجمعي العربي، وقد غاب عنهم أن فشلها أو نجاحها لم يكن ليحدث بتحركهم ضدها أو معها بقدر ما يكون نتيجة حتمية للسياسة التي تنتهجها• نفس الشيء ينطبق على الطرف الآخر الذي وعد بالكثير لكنه لم يقدم إلا القليل، دعونا نستمع إلى السيد موفق حرب المدير السابق لقناة "الحرة" الذي يقول: "نحن نعمل لصنع معايير ذهبية يعجز عنها الآخرون•• أحسن التقنيات، وأفضل المهنيين، والبرامج المبتكرة، والخلفيات التي تخطف الأبصار"، أو إلى وعود السيد نورمان باتيرز رئيس إدارة الشرق الأوسط في مجلس الأمناء للبث المشرف على المحطة: "إن الحرة ستقدم آفاقا جديدة للمشاهدين في الشرق الأوسط، ونعتقد أنها ستوجد درجة أكبر من الفهم الحضاري والاحترام•• إن جزء هاما من رسالتنا هو أن نكون مثالا للصحافة الحرة على الطريقة الأمريكية، ونكون مثل عمود نور في سوق إعلامي تهيمن عليه الإثارة والتشويه"• وبطبيعة الحال فإذا ما قارنا تلك الوعود المقدمة بما تم تحقيقه طيلة السنوات الثلاث الماضية من عمر "الحرة"، سيتبين أن القائمين عليها لم يكونوا طموحين زيادة عن اللزوم فحسب، بل كانوا مغرورين وينتهجون أسلوبا دعائيا لا يستند على أية أسس مهنية واقعية• فقد ظهرت إلى الفضاء الإعلامي قناة ركيكة ليس فيها شيء كفيل بجذب اهتمام المشاهد وخطف بصره: ديكورات تعيسة، تقنيات باهتة، أخبار بطيئة مملة•• برامج بائسة لا تختلف عن تلك الموجودة في التلفزيونات الرسمية المهجورة إن لم تكن أدنى مستوى منها، إعلاميون من الدرجة الثالثة ليس بينهم من له شأن يذكر في الإعلام العربي، معظمهم شباب مبتدئ غير ملم بأبجديات العمل الإعلامي ولا يعرفون الكثير عن الشرق الأوسط ولا عن أمريكا ولا يتحدثون اللغة الإنجليزية، بل إن بعضهم يتحدث بلهجته لأنه عاجز حتى عن التحدث بالعربية الفصحى!• وكثيرا ما انحرفت القناة في آدائها بشكل لا يحدث حتى في التلفزيونات التي لازالت تبث بالأبيض والأسود، ففي إحدى التغطيات الخاصة بجنازة الرئيس "ريغن"، أظهر المراسل المكلف بتغطية الحدث تأثرا وانفعالا غريبين، واستخدم مفردات خشبية بلهجة حماسية، فكان أمريكيا أكثر من الأمريكيين أنفسهم، أما مراسلة المحطة في البيت الأبيض فإنها تتمالك نفسها في يوم تنصيب بوش وصفقت لموكب الرئيس عندما مر من أمامها مخالفة بذلك أبسط القواعد المهنية• أما موفق حرب فوصف الزعيم الليبي "معمر القذافي" بالإرهابي على الهواء مباشرة لأنه يعتقد أن "القذافي" اختطف الإمام الشيعي "موسى الصدر"•• تلك هي المعايير الذهبية التي يعجز عن صنعها الآخرون!• الآن إذا وبعد أن دخلت "الحرة" عامها الرابع أصبح في الإمكان القول بأنها منيت بفشل ذريع على جميع الأصعدة• هذا ليس كلام أعداء القناة أو أعداء أمريكا ولكنه كلام أصدقاء أمريكا وحملة أفكارها في المنطقة من الليبراليين العرب• فهذا مأمون أفندي الباحث في معهد بيكر يرى أن الحرة تبدو "وكأنها متواطئة مع الإعلام العربي•• الحرة قدمت الوطن العربي للعرب ولم تقدم لهم أمريكا وهي لا تعكس زخم الإعلام الأمريكي والثقافة والقيم الأمريكية"، أما طارق الحميد فقد اعتبرها "خطيئة واشنطن" وقال: "آخر ما توقعناه هو أن تبيع لنا واشنطن بضاعتنا الرديئة"، ويتساءل منير الماوري الصحفي اليمني المقيم في واشنطن: "قناة الحرة أفسدت واشنطن فكيف تصلح العرب؟" ويضيف: "التخلف العربي حقق انتصارا ساحقا في قلب العاصمة الأميركية لا يقل خطورة عن الضربة التي حققها الإرهاب في هجومه على نيويوركوواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر 2001• ولقد قال قائل في واشنطن إن قيادة محمد عطا لطائرة بوينغ 747 سببت ضررا كبيرا ولكنه أقل حجما من الضرر الناجم عن تسليم ميزانية مؤسسة بحجم الحرة لشخص واحد لا يقبل مشورة ولا يحتكم إلا لمزاجه الشخصي"• هذا الكلام يظهر خيبة أمل الليبراليين العرب من القناة الأمريكية، وهو ما يؤكده سعد الدين إبراهيم مدير مركز ابن خلدون بقوله: "الذين كان لهم موقف مبدئي ضد القناة استراحوا وتنفسوا الصعداء لأنها لم تجلب الاهتمام، وأولئك الذين كانوا يتوقعون منها خيرا كقناة أمريكية أصيبوا بشيء من الإحباط وخيبة الأمل"• ولكن أليس من المستغرب أن ينتظر هؤلاء "الإصلاحيون" إصلاحا يأتي من الخارج عبر الإعلام الغربي بدل أن يسعوا هم لفعل شيء في بلدانهم الأصلية دون تدخل خارجي، لماذا يصرون على الاعتقاد بأن العقل العربي عاجز عن صناعة إعلام حر وديمقراطي ينسجم مع القيم النظرية الأمريكية، وكيف ينظرون إلى نماذج سابقة كقناة "الجزيرة" القطرية، وقناة "العربية" السعودية بغض النظر عن مسألة تمويلهما؟• لماذا نصدق أن الإدارة الأمريكية حريصة على حرية الصحافة وتسعى لتقديم إعلام نموذجي للمنطقة وهي التي قصفت مكتب "الجزيرة" في كابول، وقتلت مراسلها في العراق "طارق أيوب"، وأرسلت مصورها "سامي الحاج" إلى غوانتانامو، بل وصل الحد بالرئيس بوش إلى درجة التفكير في قصف مقرها الرئيسي في الدوحة فقط لأنها تقدم وجهات النظر التي لا تتوافق مع إدارته وأظهرت في كثير من الأحيان بالصوت والصورة زيف ادعاءاتها•