تتداول النكبات على الجزائريين، فكأن عينا لم تكتف بإصابتهم بل لاحقتهم في ساستهم فأفسدت الرأي فيهم حتى إذا جاءت المصائب الطبيعية وجدتهم عراة في مواجهة المستجدات غير السارة، فمن العواصف الاجتماعية إلى الأعاصير السياسية إلى ثورة الطبيعة المدمرة يظل الجزائريون عرضة للتدمير والموت، ولم يتعظ " أمناء" الدولة بكل الأهوال التي نزلت في أقل من عشرين سنة بالبلاد تهدد العباد وتتربص بالمجتمع. لم يكن مفاجئا ما حدث في القرى التي تتكوّن منها مدينة غرداية من خراب كبير في الممتلكات وهلاك للأنفس التي باغتها الموت ليلا وعلى حين غرة، حينما اجتاح الطوفان المدينة التي كانت آمنة بقراها وأخلط كل شيء بكل شيء واستطاع في لمح البصر أن يقضي على أسباب الحياة فيها أو كاد، وتحوّلت مدينة التاريخ في لحظات معدودات إلى كومة من الطمي الداخل إليها غارق والباقي فيها لا محالة هالك، وإذا تركنا مجهود الحكومة الخاص بالحادث والذي لا يمكن لنا إلا أن ُنثمّنه وظاهرة التضامن الشعبي التي تعيد الكوارث فقط تشكيلها كلما سرى إحساس أن الأمة بدأت عراها تتحلل، ووضعنا المعضلة في خانة التشخيص الموضوعي البعيد عن حديث العاطفة أوالتسويق السياسوي المقيت، لوجدنا أن كل ملامحها كانت واضحة تخبرنا بقرب حدوثها حتى كادت تعلن عن نفسها ولكننا لم ُنُصغِ إليها، وأشحنا بوجهنا عنها ولم ُنعد لها عدتها بل الأخطر أن كثيرا من المناطق في جهات مختلفة من البلاد تعيش نفس الظروف وتتعرض لذات إرهاصات غرداية المنكوبة وللأسف نغض عنها الطرف ولن نتحرك إلا حينما تهاجمها الكوارث ويشتد عود الأزمة علينا فيها. إن أول المداخل الإجبارية للأزمة هو ترك الحبل على الغارب للأفراد يشكلون حياتهم بطريقة فردية تمس بكيان المجتمع فيقيمون منازلهم وُدور إقامتها ومتاجرهم مثلا في مجاري الوديان وفي أحسن الأحوال على ضفافها دون أدنى إحساس بالخطر المحدق القادم ولو بعد سنين، بل الأدهى أن بعض المؤسسات العمومية راحت تفاخر بمنجزاتها في أحضان الأودية أو منحدرات المياه، وتكاد هذه الصورة تتكرر في كل مدينة وقرية عبر جميع التجمعات السكانية في الوطن، وبالإضافة إلى ذلك فإن آليات الردع التي يقرها القانون لا مكان لها في تسيير حياة الناس تقريبا وإن وجدت فإنها تطبق باحتشام أو "حسب الوجوه" أو بعنف مفرط يحوّلها إلى ما يشبه المظلمة التي تصيب الأفراد في شؤونهم ويعاديها الجميع. إن حصاد اليوم ليس إلا زرع السنين الماضية من العمل الذي يكون اختلطت فيه الجرأة الزائدة على اللزوم في عملية إعادة البناء بعد كل المعاناة التي عاناها الجزائريون من سياسة الاحتلال البغيضة، بالإرادة السيئة التي لم تكن تؤمن بالدولة الوطنية التي بعثها الشهداء ولا ترضى بنجاحها ، فكانت خطة الإغراق في الشيء وضده حتى إذا استوي للجزائريين واقعهم وتكشّف لهم من غير مجملات ولا مساحيق ضاعوا في مشاكله متعددة الرؤوس وكأنهم يمارسون نخبا سياسية وشعبا الغرق المريح الذي تعددت بهم أسبابه وظلت نتائجه عليهم واحدة. قد تكون أحداث غرداية الطبيعية أخطر دقة في ناقوس الخطر الذي يرنّ في آذان السلطات العمومية، فإما أن تعيد منهجية بناء مجتمع الدولة الحديثة بترشيد كافة الأعمال العامة والخاصة وحمايتها بالقانون الصارم من كل أشكال العبث حتى تصبح الدولة فعلا الحضن الآمن في اللحظات الحرجة لا رجل المطافئ المرتجف الذي تعوزه وسائل الإسعاف الضرورية المناسبة، وإما أن يظل قانون تصريف الناس لأعمالهم معطَّلا، ومن ثم تتكاثر الكوارث وتتعاظم قوتها، فتداهم المجتمع وتنحت مؤسسات الدولة بما ُيخرٍج المواطن عن خط الثقة في دولته وانزلاقه عنها إلى سياسة الغرق في أوحال هنا وأخرى هناك ...