في المشهد السياسي الحالي هناك مجموعة معطيات واضحة وأخرى تلفها الضبابية المفروضة. أما المعطيات الواضحة فهي أن ترتيب مسألة الرئاسة والرئيس شكلت أزمة منذ انقلاب 1992. فالكل يعرف الظروف التي أنهيت بها ولاية الرئيس الشاذلي بن جديد والكل يعرف النهاية المأساوية للرئيس محمد بوضياف والكل يذكر كيف كانت نهاية اليمين زروال قبل انتهاء فترة رئاسته الدستورية. الغموض في الواقع بدأ مع الانتخابات الرئاسية لسنة 1999 وتأكد بالخصوص مع ما كنا نشاهده، أو شكلناه من انطباع، عن " نضال!" و" كفاح!" الرئيس بوتفليقة من أجل ممارسة كامل صلاحياته الدستورية. اليوم كلما اقترب الاستحقاق الانتخابي كلما ازداد الانطباع قوة أن هناك أزمة في السلطة وأن أمر العهدة الثالثة من عدمها لم يحسم. من المعطيات الواضحة أيضا أن الآليات الدستورية ليست هي قاعدة الحسم وأن هناك " سلطة" تملك سلطة حسم الموضوع نسميها في اللغة الإعلامية " أصحاب القرار" وأفضل تسميتها ب " دائرة القرار المغلقة"، وهي ليست بالضرورة عسكرية بالكامل حتى وإن كانت القيادة العسكرية الأمنية هي الطرف الأقوى والطرف الحاسم. كل هذا يدفع للحديث عن مسألة أخرى واضحة وهي أن منصب الرئاسة فقد من " سلطته"، مهما كانت محاولات بوتفليقة. وهو صار في مثل وضع الداي، سواء في من يملك سلطة اختياره، أومن حيث ما كان يوصف به خاصة أنه " .. مستبد وليس له حرية..". أخيرا وليس آخرا واضح أنه ليس هناك " تنافس" بين برامج أو بين تيارات سياسية، إن التنافس أو التدافع هو داخل دواليب السلطة فقط. الواضح أيضا في المشهد السياسي القائم هو عدم وجود أي فكرة أو رؤية، قبل الحديث عن برنامج، لحل لما تعيشه البلاد. ليس هناك من رؤية لحل مشكلة السلطة، والأحاديث والتقلبات المتصلة بمسألة العهدة الثالثة تؤكد غياب هذا الحل وغياب الرغبة في البحث عن الحل خارج القوالب القائمة. وليس هناك حل للمشكلة الاقتصادية، والتقلبات التي نقرأها سواء ما اتصل بالسياسة الطاقوية أو الخاصة بالخصخصة والإعتراف بفشل هذا التوجه، تؤكد مع غيرها من المعطيات، العجز عن إطلاق ديناميكة اقتصادية حقيقية أو حتى تقديم تصور سياسي متكامل لما يمكن أن يشكل ولو خطوطا عريضة لسياسة اقتصادية. ومجموع مكونات هذه الصورة تؤكد أنه ليس هناك مقترح حل ناضج وأن الأمر في أحسن الأحوال قائم على التجربة والخطأ. أما من الناحية الثقافية والتربوية فإن الأمر أدهى وأمر، فالتقلبات كثيفة وخطيرة وهي معروفة ولا تحتاج للكثير من التفصيل. لكن لنركز على المسألة السياسية وعلى معطيات المشهد القائم أمامنا اليوم. أول ما تبادر إلى الذهن هو أن " اللعبة" التي أمامنا " سامطة" وعقيمة لا تندي ولا تمطر إلا مزيدا من التأزم ومزيدا من الركود. إن الجدل الذي تغذيه دوائر سلطوية متنوعة يعطي الانطباع أن هناك تعارض بين طرفين في السلطة. واحد يرى أن الحل هو عهدة ثالثة للرئيس الحالي، وهي بصورة من الصور نوع من الاعتراف بوجود " توازن قوة" يمنع بروز " حل آخر"، والثاني يرى أن الاستمرارية ممكنة من غير العهدة الثالثة، أي أن الرئيس بوتفليقة ليس شرطا لتحقيق الاستمرارية لدائرة القرار المغلقة الحاكمة. وفي كل الأحوال يستشف من كل هذا الجدل السلطوي أن الحل سلطوي وليس سياسي، وأقل من ذلك حل ديمقراطي. ذلك أن الناخب والناخبة في الجزائر لا دور له إلا " تغطية" خيارات الدائرة المغلقة. هل الجمود القائم، وهو جمود شامل ومتعدد الأبعاد، يدل على عجز أصحاب القرار على إقرار الخطوة التالية أم أنهم اعتقدوا أن الوضع الحالي هو الحل، وأن لا شيء في الساحة يضغط ولا شيء يدفع لتغيير ما " نجح!!" بالأمس. أما المسائل المتصلة بالموضوع والتي تلفها ضبابية كثيفة فهي متصلة أولا بالوضع الصحي للرئيس وهل يسمح له بعهدة ثالثة أم لا؟ الجواب عند أصحاب القرار وعند بوتفليقة. كما أن تأجج أعمال العنف والإرهاب خلال السنة الأخيرة بالخصوص يمكن وضعه في خانة المعطيات الغامضة، خاصة وأن هناك من يوحي أن تلك الأعمال تحمل رسائل متعددة من طرف أو أطراف لطرف أو أطراف. والتساؤل الهام الآن هو: لماذا هناك انطباع أنه لم يتم الخروج من استخدام العنف والإرهاب؟ وهل ذلك تعبير عن انسداد سياسي أم تعبير عن فعل سياسي؟! بالتأكيد هناك عوامل منظورة وأخرى غير منظورة وغير مفهومة. الواضح من خلال العمليات الإرهابية الأخيرة ومن خلال بعض ردود الفعل أن هناك طرفين على الأقل يريان استخدام العنف وسيلة لتحقيق أغراض سياسية. طرف يستخدم السلاح بحجة التمرد على السلطة والعمل على تغييرها وطرف آخر نجد التعبير عنه في بعض الكتابات الإعلامية التي تجزم أن طريق المصالحة ليس هو طريق الحل. التفسيرات المضاربية كثيرة وهي تريد، على ما يبدو، إغراق الوضع المتردي على أكثر من صعيد في شبر ماء. لقد صار معروفا أن العنف والإرهاب لم يغير ولن يغير من الوضع قيد أنملة، بل أن البعض راح يقول أن حال العنف هو مبرر للتهرب من كل استحقاق سياسي يحتم التفكير في التغيير. من ناحية أخرى نرى بوضوح أنه لم يكن لتراجع وإنحسار الإرهاب، حتى الآن أي إنعكاس سياسي. إذ لا يمكن القول إن الديمقراطية استفادت ولا يمكن القول إن الحريات توسعت ولا يمكن القول إن آليات الإدارة تغيرت ولا يمكن القول إن منطق المركزية الضيقة والحادة قد تغير حتى الآن، ولا يمكن القول أنه توفر مناخ لأي حركية اقتصادية. هل مثل هذا الاستنتاج يعني أن ما هو أمامنا لا يمثل إلا " تلاعبا" وليس فعلا سياسيا. هل كل ما تم هو مسار يؤدي لطريق مسدود أم أن الأمر لا يعدو أن يكون إدارة جديدة لوضع قديم؟ مهما يكن الكل يعرف مثلا أن طرح " المصالحة" كان طرحا تتبناه أطراف سياسية متنوعة وتدعو له، وأن هذا الطرح كان يجعل " المصالحة" فعلا سياسيا يسبق الحل السياسي على الحل الأمني. والدعوة للحل السياسي والمصالحة كانت تستهدف في ما تستهدفه عدم تعطيل الحل السياسي الديمقراطي الشامل، القائم على تغيير أنماط إدارة الدولة. وهذا يعني أنه إذا لم يرفع التعطيل عن الحل السياسي الديمقراطي فمعنى ذلك أنه لم تتحقق مصالحة ولم تتوصل البلاد لآلية تفاوضية أو سياسية عادية لحسم مسألة الرئاسة أو غيرها. ومعلوم أيضا أن هذا الطرح كان مرفوضا رفضا قاطعا من قبل " مديري الحل الأمني" ومن قبل النخب المتطوعة أو المجندة لتبرير هذا الخطاب. وإذا استغرب البعض " تحول" هؤلاء من " الكل أمني" و" الإستئصال" إلى " المصالحة" فإن الإستغراب هو الخاطئ. ذلك أن الطرح لم يتغير والقناعة لم تتغير. وما تم هو فعل تكتيكي، وليس فعلا سياسيا، وقد بدأ أيام الرئيس زروال مع قانون الرحمة. صحيح أن فعل الوئام والمصالحة له نتائج سياسية، وهي نتائج سياسية محدودة جدا، ولكن نتائجه الأساسية هي نتائج أمنية. أي تراجع ظاهرة الإرهاب والعنف، من غير أن يقوم فعل سياسي وأقل من ذلك ديناميكة سياسية. ولكن ما علاقة هذا بالفعل السياسي الديمقراطي؟ ببساطة يمكن القول: إن المركزية التي تمكنت من التخفيف من " الإزعاجات" القائمة على العمل الإرهابي اعتبرت المعركة مع الإرهاب معركة جميع الجزائريين ولكنها سارت في " طريق الحل" الذي أرادته بشكل منفرد، كما أنها اعتبرت " الإنتصار انتصارها!" وحدها. وأكثر من هذا فإن الحكم يرفض السير في إتجاه المصالحة مع الذين تبنوا رؤى أخرى غير رؤيته هو في " الإستئصال" أو في " الحل الأمني "، لأنه يعتبر أنه ليس في حاجة لفعل سياسي ولديناميكية سياسية. إنه ليس من الصعب على أي مراقب أن يلاحظ الفراغ السياسي الرهيب، بل حتى الرئيس لا يجد من " يطبق برنامجه!!" ويعتمد بالتناوب على وجهين يتعارضان في الكثير من الأشياء، أو على الأقل في التعبير عن تلك الأشياء. إن إنتزاع إجماع صوري، حول هذه المسألة أو تلك وحتى حول الحكم القائم، أمر ممكن وهو أمر سائد منذ قيام هذه " المركزية الصلبة" التي تهيمن عليها دائرة القرار المغلقة، ومن السهل إدارته بهذه الهيمنة المطبقة على كل الأجهزة الفاعلة والمؤثرة وعلى كل ما يتصل بالقرار، لكن كل هذا أسلوب إدارة وليس عامل حل، وفي كل الأحوال بعيد عن أن يشكل حلا سياسيا. وقد رأينا أن أحمد أويحي، أو لنقل طرفا من السلطة، قد عبر عن " مساندة" للعهدة الثالثة، وكأن إجماعا قد حدث حول الموضوع وكأن السلطة توصلت لحل واحدة من مشكلاتها. لكن ليس من الصعب أن نرى أن الأطراف التي يستند لها الحكم، جبهة التحرير والتجمع بالأساس، لم تتمكن من إعطاء مصداقية لأي فعل سياسي وهي " قتلت" الحياة السياسية وحولت أجهزتها السياسية لأجهزة مناسباتية انتخابية ولأجهزة لتقاسم الريع، كل أنواع الريع السياسي والمصلحي. ولهذا ألا يجدر التساؤل ولكن من يحسم مسألة العهدة الثالثة أمام هذا الفراغ السياسي وهذا الانسداد القائم؟ طبعا ليس الأحزاب وليس البرلمان وليس الاستفتاء. إنها السلطة ولا أحد غير السلطة. ولكن إذا لم يعتمد " حل" العهدة الثالثة فما هو البديل؟! بين تعبير الرئيس عن رغبته في ولاية ثالثة، ولو عن طريق " وسطائه"، وبين " المفاوضات" بين أطراف السلطة يستمر المد والجزر ولكن إذا كان هناك طرف يعترض على العهدة الثالثة فإنه مع ذلك لم يسرب شيئا عن " البديل"، حتى ونحن نتذكر طرح إسم أحمد أويحي.