سورة آل عمران 15: (قُلْ) يارسول الله للناس الذين زُيّن لهم حُبّ الشهوات (أَؤُنَبِّئُكُم)، أي هل تريدون أن أخبركم (بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ)، أي بأحسن من هذه الشهوات، و"كُم" خطاب للناس (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) المحرّمات وعملوا حسب أوامر الله سبحانه (عِندَ رَبِّهِمْ) في الآخرة (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)، أي من تحت أشجارها ونخيلها وقصورها (خَالِدِينَ فِيهَا) فإنهم يسكنون الجنة أبد الآبدين لا زوال لهم ولا تحويل (وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ)، أي نساء طاهرة من الأقذار الظاهرية كالحيض والوساخة والأقذار الباطنية كسوء الخُلُق والحقد والعداوة (وَ) أكبر من كل ذلك (رِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ) فإن الله راضٍ عنهم ومتى شَعَرَ الإنسان برضى الله سبحانه منه تنعّم بأفضل نعمة نفسية كما لو عَلِمَ فرد من الرعية أن الملك يحبه ويرضى عنه (وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) خبير بأفعالهم وأعمالهم فيجازيهم حسب ما يفعلون. 16: ثم وصف سبحانه المتقين الذين سبق ذكرهم بقوله (للذين اتقوا) فالمتقون هم (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا)، أي صدّقنا بك وبرسلك وبما أمرت ووعدت (فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)، أي تجاوز عما صدرت منّا من الخطايا (وَقِنَا)، أي إحفظنا من «وقى» و«يقي» بمعنى حفظ (عَذَابَ النَّارِ) حتى لا نكون من أهلها. 17: (الصَّابِرِينَ) صفة أخرى للمتقين فأولئك هم الصابرون في المصائب وعند الطاعة ولدى المعصية (وَالصَّادِقِينَ) في نيّاتهم وأقوالهم وأفعالهم (وَالْقَانِتِينَ) من القنوت بمعنى الإطاعة والخضوع (وَالْمُنفِقِينَ) لأموالهم في سبيل الله سبحانه (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ) الذين يطلبون غفران ذنوبهم (بِالأَسْحَارِ) جمع «سَحَر» وهو ما يقرب من طلوع الفجر آخر الليل. 18: ويناسب السياق هنا الإشارة إلى صفات الباري عزّ إسمه حيث تقدّم ذِكر من التقوى وأوصاف المتقين الذين يعملون لله سبحانه (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) وشهادة الله لفظية وواقعية فإن الشهادة إظهار المطلب باللسان وقد أظهر الله سبحانه وحدته وسائر صفاته بما هو أقوى وأثبت وأولى من اللفظ، وهو خلق المصنوعات التي تشهد جميعها بصفاته كما قال الشاعر «وفي كلّ شيء له آية تدل على أنه واحد» وإنما تشهد المصنوعات على الوحدة لأنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لَفَسَدَتا فعدم الفساد دليل الوحدة -كما تقدّم في علم الكلام- (وَالْمَلاَئِكَةُ) شهدوا بالوحدانية شهادة لفظية وحقيقية (وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ) أصحاب العلم الذين يدركون، لأكل من يدّعي العلم، فإنه من ينظر إلى الكون نظر عام معتبر لابد له من الإذعان بالوحدانية (قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ)، أي في حال كونه سبحانه قائماً بالعدل، فإن القسط بمعنى العدل، ومعنى قيامه سبحانه بالعدل أنه يفعل ما يفعل بالعدل، فخلقه وتقديره وتشريعه كلّ بالعدل، ومعنى العدل الإستواء مقابل الظلم الذي هو الإعوجاج والإنحراف، فمثلاً جعل الشمس في السماء عدل لأنها تنير وتُشرق وتقيم المجموعة الشمسية بينما عدمها إنحراف وظلم، وكذلك تقدير هذا غنياً وذاك فقيراً وهذا رئيساً وذاك مرئوساً بالعدل، وما يُشاهد في ذلك من الإنحراف فإنه ليس من التقدير وإنما من سوء إختيار الناس، وكذلك تشريع الصلاة واجبة والخمر محرّمة بالعدل، يُقال أن رجلاً سأل كسرى عن سبب عدله قال: لعدة أسباب منها أني رأيت في الصحراء يوماً كلباً كسر رجل غزال فما لبث أن رماه إنسان بحجر فكسر رجله فلم تمضِ على ذلك لحظات إلا بالفرس عثر فانْكسرت رجله، وهناك علمت أن الظلم عاقبته وخيمة...، والإنسان إذ لم يجهل أكثر الأشياء فهو كمن يعترض على أدوية وصفها الطبيب وهو لا يعرف من الطب شيئاً، ولفظة «قائماً» فيه إيمائة لطيفة فإن القائم يشاهد ما لا يشاهده القاعد إذ هو مسيطر مشرف (لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) تكرار للتأكيد فإن العالم قبل الإسلام كان مرتطماً في أوحال الشرك حتى جاء الإسلام أظهر التوحيد وجدّد ما محى من سنن الأنبياء وإرشادهم حول المبدء تعالى (الْعَزِيزُ) في سلطانه (الْحَكِيمُ) الذي يفعل كل شيء عن حكمة وعلم. 19: وبعد ما تقرّر التوحيد والعدل التي دور الدين الذي أرسله الله سبحانه إلى العباد (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) والدين هي الطريقة التي تؤمّن السعادة للبشر دنيا وآخرة، أنه عند الله الإسلام، وإن كان عند غيره اليهودية والنصرانية والمجوسية وغيرها، فإنّ الله سبحانه لم يرسل إلا الإسلام والإسلام هو دين الأنبياء جميعاً فإنه عبارة عن تسليم منهج الأعمال إلى الله الذي خلق الكون وهو أعلم بالنظام المساوي له الذي إن تبعه البشر عاش سعيداً ومات حميداً، وقد ذكرنا سابقاً أن الإختلاف بين الأديان السماوية الواقعية في شرائط ومزايا لا في الجواهر والأصول (َمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ)، أي ليس إختلاف أهل الكتاب بعضهم مع بعض وجيعهم مع المسلمين (إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ) فعرفوا الصحيح من السقيم والحق من الباطل وإنما إختلفوا (بَغْيًا)، أي حسداً (بَيْنَهُمْ) فلم يقبل اليهود أن يرضخوا لعيسى (عليه السلام) حسداً، ولم يقبل النصارى أن يؤمنوا بنبي الإسلام (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حسداً، كما قال سبحانه (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) (وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ) فلم يؤمن بها فلا يظن أنه ربح وتهنّأ بدنيا باقية بل خسر وذهبت دنياه وآخرته (فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ) يحاسب الكفار في الدنيا بأنواع من البلايا والمصائب كما قال (من أعرض عن ذِكري فإنّ له معيشةً ضنكا) وفي الآخرة بما إقترفوه من الكفر والآثام، والآخرة قريبة جداً فإن «من فاته اليوم سهم لم يفته غداً» قال الشاعر «ألا إنما الدنيا كمنزل راكب أناخ عشيّاً وهو في الصبح راحل». 20: (فَإنْ حَآجُّوكَ) يارسول الله وجادلوك في أمر التوحيد بعد وضوح الحجّة (فَقُلْ) لهم (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ) فأنا لا أعبد إلا الله سبحانه لا أتخذ له شريكاً، وإسلام الوجه كناية عن الإسلام المطلق إذ تسليم الوجه إلى نحو يدل على تسليم القلب وسائر الجوارح (وَمَنِ اتَّبَعَنِ)، أي الذين إتّبعوني هم أيضاً أسلموا وجوههم لله فقط دون غيره (وَقُل) يارسول الله (لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ)، أي أُعطوا الكتاب السماوي من اليهود والنصارى والمجوس (وَ) ل(الأُمِّيِّينَ) من المشركين الذين لا كتاب لهم، وُسموا أمّيّين أما لجهلهم نسبة إلى الأم وأما لأنهم من أهل مكة -أم القرى- (أَأَسْلَمْتُمْ)، أي هل أسلمتم وجوهكم لله وحده -بلا جدال ونقاش معهم بعد ما تمّت عليهم الحجّة- (فَإِنْ أَسْلَمُواْ) وتشرّفوا بدين الإسلام (فَقَدِ اهْتَدَواْ) إلى الحق وإلى طريق مستقيم (وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ) أن تبلغهم الإسلام وليس عليك إجبارهم حتى لا يتولّوا وحتى لا يُعرِضوا (وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) لا يفوته شيء من أعمالهم فهو يجازيهم بكفرهم وميثاقهم كما يجزيهم على إيمانهم وإطاعتهم.