احتفلت الامتين العربية والاسلامية امس بذكرى الإسراء والمعراج الشريفين التي توافق للسابع والعشرين من شهر رجب من كل عام، تلك الحادثة المليئة بالمعاني والعبر وترمز إلى الرباط الوثيق بين المسلمين اينما كانوا وبين مسرى نبيهم الكريم ومعراجه، وتثبّت في يقين الأمة ومشاعرها معنى الوحدة بين اقطار العالم الاسلامي. وتكتسب ذكرى الإسراء والمعراج الشريفين أهميتها من الدروس والعبر التي تفيض بها على قلوب المؤمنين وعقولهم، وتجدها لا ينتهي مداها ولا ينقطع سَدَاها، وفي كلّ عصر . تعد معجزة الإسراء والمعراج آية من آيات الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، ورحلة لم يسبق لبشر أن قام بها، أكرم الله بها نبيَّه محمد . إنها رحلة الإسراء والمعراج التي أرى اللهُ فيها النبيَّ عجائب آياته الكبرى، ومنحه فيها عطاءً رُوحيًّا عظيمًا؛ وذلك تثبيتًا لفؤاده، ليتمكَّن من إتمام مسيرته في دعوة الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولتكون تمحيصًا من الله للمؤمنين، وتمييزًا للصادقين منهم، فيكونوا خَلِيقين بصحبة رسوله الأعظم إلى دار الهجرة، وجديرين بما يحتمله من أعباء وتكاليف. أمَّا الإسراء[1] فهي تلك الرحلة الأرضيَّة وذلك الانتقال العجيب، بالقياس إلى مألوف البشر، الذي تمَّ بقُدْرَة الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والوصول إليه في سرعة تتجاوز الخيال، يقول تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]. وأمَّا المعراج فهو الرحلة السماويَّة والارتفاع والارتقاء من عالم الأرض إلى عالم السماء، حيث سدرة المنتهى، ثم الرجوع بعد ذلك إلى المسجد الحرام، يقول تعالى: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:13-18]. وقد حدثت هاتان الرحلتان في ليلة واحدة، وكان زمنها قبل الهجرة بسَنَةٍ. على أنه أُثِيرَ حول الإسراء والمعراج جدل طويل وتساؤلات عِدَّة، فيما إذا كانت قد تمَّت هذه الرحلة بالرُّوح والجسد، أم بالروح فقط؟ ومتى وكيف تمَّت؟ هل الإسراء والمعراج معجزة؟ قبل الشروع في الإجابة على هذه الأسئلة نُجِيب أوَّلاً عمَّا إذا كانت رحلة الإسراء والمعراج معجزة أم غير ذلك؟ فالمعجزة -كما هو معروف- هي أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدِّي، سالم عن المعارضة، يَظْهَر على يد مدعي النبوَّة موافقًا لدعواه[2]، وكانت تُطلَب من الرسول برهانًا ودليلاً على صدقه، باعتبار أن الشواهد المادِّيَّة والمعنويَّة الخارقة للمعتاد المألوف في قوانين الكون وأنظمته تضع الباحث عن الحقِّ أمام البرهان الواضح الدالِّ على صدق الرسول في دعواه الرسالة؛ ذلك لأن الذين يتحدَّاهم الرسول بالمعجزة لا يستطيعون الإتيان بمثلها منفردين أو مجتمعين، في حدود قدراتهم الممنوحة لهم بحسب مستواهم [3]. ومعنى ذلك أنَّ المعجزة يُجْرِيها الله على يد الرسول تأييدًا له، وأنَّ الرسول يتحدَّى قومه بهذه المعجزة؛ ليتأكَّدوا أنها من قِبَلِ الله ، ومن ثَمَّ يتأكَّدون من صدقه، وأنه مؤيَّد من السماء، وذلك بعد أنْ يَظْهَرَ لهم عجزهم عن الإتيان بمثلها، كما هو الحال مع معجزة القرآن الكريم. وعلى هذا الضوء يمكننا أن نفسِّر حادث الإسراء والمعراج؛ فالرسول لم يتحدَّ أحدًا بهذه الرحلة، ولم يطلب من المشركين أنْ يُعَارِضُوه فيأتوا بمثلها، ولذلك إذا قلنا: إنها معجزة. فإننا نقول ذلك على سبيل المجاز؛ فهي أمر خارق للعادة، ولكنه لم يكن للتحدِّي، ولم يرَهُ الناس بأعينهم حتى يؤمنوا به كإحدى معجزات النبوَّة، وإنما كان تسلية للنبي ، واختبارًا للمسلمين المقبلين على مراحل أخرى من الجهاد يَعْلَمُها الله؛ كالهجرة وما بعدها من بناء دولة الإسلام الثابت الدعائم، القويِّ الأركان لماذا كان الإسراء والمعراج ؟ رجح أكثر علماء السيرة النبوية أن حدوث الإسراء والمعراج كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة واحدة[1]، أي بعد مرور اثني عشر عامًا من البَعثة، وهي سنوات ذاق خلالها النبي وصحبه الكرام ألوانًا وأصنافًا من الاضطهاد والعذاب، شمل الجانب النفسي والاجتماعي والاقتصادي. وكان من ذلك أنَّ قريشًا سعت إلى تفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، والتجويع الجماعي لهم، كُفَّارًا ومسلمين، واتفقوا على ألاَّ يُنَاكحوهم، ولا يُزَوِّجوهم ولا يتزوَّجوا منهم، ولا يُبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يَدخلوا بيوتهم، ولا يكلِّموهم، وأن لا يَقْبَلوا من بني هاشم وبني المطَّلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلِموا رسول الله لهم للقتل!! وهنا بدأت حِقبة جديدة من المعاناة والألم، حيث حُوصِر المسلمون والمشركون من بني عبد مناف ومعهم أبو طالب في شِعْبِ أبي طالب ، وقد بلغ الجهد بهم حتى إنه كانت تُسمَع أصوات النساء والصبيان وهم يصرخون من شدَّة الألم والجوع، وحتى اضطرُّوا إلى أكل أوراق الشجر والجلود. وقد ظلَّت تلك المأساة البشريَّة طيلة ثلاثة أعوام كاملة، حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وشاء الله أن يُفَكَّ الحصار البشع عن بني هاشم وبني عبد المطَّلب، وكان ذلك على يد ثُلَّة من مشركي قريش جمعتهم النخوة والحميَّة القبليَّة، ثم بفضل آية قاهرة من آيات الله ، تمثَّلت في الأَرَضَة التي أكلتْ جميع ما في الصحيفة التي اتَّفقوا عليها، من جَوْر وقطيعة وظلم، إلاَّ ذِكْرَ اللَّه !! وما إن انتهت هذه السنون العجاف حتى تلاها عام الحزن، الذي لم يكن تسميته إشفاقًا من أحد، ولكنها تسمية النبي لمَّا حدثتْ له مصيبتان كبيرتان في هذا العام (العاشرة من البعثة)، أمَّا الأولى فهي موت أبي طالب، عمِّ رسول الله ، والسند الاجتماعي له، وأمَّا الثانية فهي وفاة خديجة رضي الله عنها، زوج رسول الله والسند العاطفي والقلبي له!! وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيَّام معدودة، فازدادت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله ، وزاد عليه ما كان مِن تجرُّؤ المشركين عليه؛ حيث كاشفوه بالنكال والأذى بعد موت عمِّه أبي طالب. وقد ازداد رسول الله غمًّا على غمٍّ حتى يئس من قريش، وخرج إلى أكبر القبائل بعد قريش وهي قبيلة ثقيف بالطائف؛ رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يُئووه وينصروه على قومه، فلم يرَ ناصرًا ولم يرَ مَن يُئوي، وقد قال له أحدهم: أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟ وقال آخر: والله لا أُكلِّمك أبدًا... لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أردَّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك! وهنا قام رسول الله من عندهم وقد يئس من خيرهم، وقال لهم: إِذْ قَدْ فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنِّي . إلاَّ إنهم لم يفعلوا، بل تطاولوا عليه ، وأَغْرَوْا به سفهاءهم الذين رَمَوْهُ بالحجارة هو ومولاه زيد بن حارثة، حتى دَمِيَتْ قدمه الشريفة، وشُجَّ رأس زيد، ولم يزل به السفهاء حتى ألجئُوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهناك التجأ إلى شجرة وأخذ يدعو بالدعاء المشهور: اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلاَ أُبَالِي... [2]. وهذا الدعاء يدلُّ على امتلاء قلبه كآبة وحزنًا ممَّا لقي من الشدَّة، وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد، وقد جاء هذا الحزن وذاك الألم معبَّرًا عنه في حديث عائشة رضي الله عنها؛ إذ سألتْ رسول الله : هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ : لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ... إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا [3]. ثم إنه لما عاد إلى مكة حزينًا كسيرَ النفس لم يستطع أن يَدْخُلْهَا إلاَّ في جوار مشرك، وهو مطعم بن عديّ!! وفي هذه الظروف العصيبة والمحن المتلاحقة؛ في الطائف وفيما سبقها من وثيقة المقاطعة والحصار، ووفاة سَنَدَي الرسول الكريم العاطفي والاجتماعي، زوجه السيدة خديجة -رضي الله عنها- وعمه أبي طالب ؛ في هذه الظروف وبعد أن ضاقت به الأرض من المشركين اتَّسعت له أفق السماء، وجاءت معجزة الإسراء والمعراج تثبيتًا له ومواساة وتكريمًا؛ ولتكون بذلك منحة ربانيَّة تمسح الأحزان ومتاعب الماضي، وتنقله إلى عالم أرحب وأُفق أقدس وأطهر، إلى حيث سِدْرَة المنتهى، والقُرْب من عرش الرحمن . حقيقة الإسراء والمعراج المتَّفَقُ عليه لدى جمهور العلماء أنَّ الإسراء تمَّ بالروح والجسد معًا[1]؛ لأنه لو كان بالروح فقط لما أحدث خلافًا، ولمَا كان هناك داعٍ لكُلِّ الضجَّة التي أحدثها بين القوم يومذاك، وكلُّ ما هنالك حينذاك -أي لو كان بالرُّوح فقط- أن يكون مجرَّدَ رُؤْيَا كما تحدث لأي إنسان في منامه، ومِن ثَمَّ فليس من شأنها أن تحرِّك ساكنًا. والذين يُدركون شيئًا من طبيعة القدرة الإلهيَّة لا يستغربون واقعة كهذه؛ لأن تلك القدرة إرادة نافذة، تهون أمامها جميع الأعمال الَّتي تبدو في نظر الإنسان صعبة أو مستحيلة، حسبما اعتاده ورآه، وانطلاقًا من قدراته وطاقاته المحدودة، ولو كان الأمر موافقًا لهذه القدرات لما كان فيه معجزة تشهد لصاحبها بصدقه فيما جاء به؛ فالنُّقلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والوصول إليه في سرعة تتجاوز الخيال ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى وتلقِّي القرآن والرسالة عنه، وقد صدَّقه أبو بكر وهو يردُّ المسألة المستغرَبة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول: إني لأُصدِّقه بأبعد من ذلك! أُصَدِّقه بخبر السماء [2]. وقد ذهب قليل من العلماء إلى أنَّ الإسراء والمعراج كانا منامًا، تشبُّثًا بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، على أنَّ المراد بها ما رأى ليلة الإسراء، والرؤيا بالقصر ما يُرَى في المنام، وتشبُّثًا ببعض الروايات التي يدلُّ ظاهرها على أنه كان في المنام. أما جمهور علماء المسلمين فقد جزموا بأن الإسراء كان بالرُّوح والجسد يقظةً لا منامًا، معتمدين على أدلَّة كثيرة منها: 1- أنه ثبت أنَّ قريشًا كذَّبوه في الإسراء واستبعدوا وقوعه، ولو كان منامًا لما كذَّبوه ولا استنكروه؛ لجواز وقوع مثل ذلك وأَبْعَد منه لآحاد الناس. 2- أن التسبيح والتعجُّب في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، إنما يكون في الأمور العظام، ولو كان ذلك منامًا لذكره الله تعالى كما ذكره عن إبراهيم وولده إسماعيل في قصَّة الذبح المعروفة، ولمَا كان له كبير شأن. 3- أن الله تعالى أثبت رؤيا القلب بقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، ورؤيا العين بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 17-18]. وأمَّا قولهم أن الرؤيا -بالقصر- مختصٌّ برؤيا المنام، فيمكن ردّ هذا الاستدلال عليهم بأنَّ هذا الاستعمال هنا في رؤيا العين دليل على أنَّ هذا اللفظ ليس خاصًّا بالمنام. 4- قوله تعالى: {بِعَبْدِهِ} يدلُّ على مجموع الروح والجسد. 5- أن التعبير القرآني جاء بلفظ السرى الذي يدلُّ على الستر والخفاء، وجعل هذا الستر والخفاء في مضمون سترٍ آخر هو الليل. 6- أنَّ عمليَّة الإسراء بهذه السرعة ممكنة في نفسها، بدليل أنَّ الرياح كانت تسير بسليمان u إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة، قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81]. 7- أن في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} تصريحًا بالإسراء، وتوضيحًا في أنه وقع بالفعل للنبي ، وليس رؤيا مناميَّة، وإلاَّ لما استحقَّ أن يذكره القرآن الكريم بكلِّ ما يحيطه من تنزيهٍ وتسبيح لله العلي القدير، وأيضًا لما استحقَّ هذا الحادث أن يختص بسورة من القرآن تُسَمَّى باسمه بين دفَّتي المصحف الشريف. 8- أن ما استندوا إليه من ظاهر بعض الروايات، كرواية البخاري: بينا أنا عند البيت مضطجعًا بين النائم واليقظان... ، و إذ أتاني... . أو رواية: بينا أنا نائم... . أن هذه الروايات محمولة على ابتداء الحال، ثم صار إلى اليقظة الكاملة r. يقول ابن حجر: وقد اختلف السلف بحسب اختلاف الأخبار الواردة؛ فمنهم من ذهب إلى أن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي r وروحه بعد المبعث، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدِّثين والفقهاء والمتكلِّمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك؛ إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل [3]. الحكمة من الإسراء والمعراج إذا كان لنا أن نذكر حادث الإسراء، فإنما نذكره أوَّلاً في حدود اليقين والاطمئنان لا في متَّسع الظنون والاضطراب، وأن نذكره ثانيًا بقلوبنا، وفي أوقاتنا كلها بما يُرشِد إليه من إيحاء ننتفع به في حياتنا على توالي السنين والأجيال... وإنَّ حادث الإسراء بعد كونه تثبيتًا وتكريمًا للنبي ، وإعدادًا لقواه النفسيَّة والعقليَّة والجسميَّة لتحمُّل أعباء الرسالة العامَّة، وخذلان أعدائه، وعلوِّ كلمته، هو بعد ذلك كلِّه يوحي للمسلمين بمكان بدئه وهو المسجد الحرام، ومكان نهايته وهو المسجد الأقصى، يوحي بمهابط الوحي الأوَّل الذي تلقَّاه إبراهيم وإسماعيل، ومهبط الوحي الثاني الذي تلقَّاه موسى وعيسى، وأنها كلها مهابط الرسالة الإلهية التي جاء محمد لتكميلها والهيمنة عليها، وأن تلك الرسالات -وإن اختلفت أزمنتها، وتعدَّدت رسلها- واحدة في دعوتها وغايتها، وأن الرسل جميعًا الذين اصطفاهم الله لتبليغها بُنَاة بيت واحد، يضع آخر لبنة فيه خاتمهم محمد بن عبد الله، صاحب الإسراء والمعراج. إذن فلا بُدَّ أن يخفق على هذه الأماكن جميعها علم التوحيد والإيمان، على النحو الذي جاء في رسالته، ولا بُدَّ أن تطهر رقعتها من بذور الشرك والوثنيَّة والظلم والفساد، وأن يعلو فيها سلطان الحقِّ وعدالة السماء[