نعود إلى قوله تعالى: »ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير«. فتلك أصناف الأمة المحمدية التي أكرمها الحق سبحانه وتعالى بالقرآن الكريم، ولعلي أوفق في التعبير إن قلت إن من حق الواحد منا أن يفرح بالله، ويفرح بالقرآن الكريم، ويفرح بهذه البشرى، فقد ورد عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أن الثلاثة في الجنة بإذن الله، قال الحسن رضي الله عنه: »الظالم لنفسه من خفت حسناته، والمقتصد من استوت، والسابق من رجحت«. وقال معاذ رضي الله عنه: »الظالم لنفسه من مات على كبيرة لم يتب منها، والمقتصد من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة ولم يتب منها، والسابق من مات تائبا من كبيرة أو صغيرة أو لم يصب ذلك«. وروى الألوسي أقوالاً أخرى في تفسير الأصناف الثلاثة من مثل: »الظالم لنفسه المقصر في العمل، والثاني العامل بالكتاب في أغلب الأوقات ولم يخلُ من تخليط، والثالث السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار«. ومن مثل: »هم من لا يبالي من أين ينال، ومَن قوته من الحلال، ومَن يكتفي من الدنيا بالبلاغ، ومن مثل: من همه الدنيا ومن همه العقبى ومن همه المولى«، ومن مثل: »من شغله معاشه عن معاده، ومن شغله بهما، ومن شغله معاده عن معاشه«، ومن مثل: »من غلبت شهوته عقله، ومن تساويا، ومن غلب عقله شهوته«، ومن مثل: »من لا ينهى عن المنكر ويأتيه، ومن ينهى عن المنكر ويأتيه، ومن يأمر بالمعروف ويأتيه«، ومن مثل: »ذو الجور وذو العدل وذو الفضل«، ومن مثل: »من كان ظاهره خيراً من باطنه، ومن استوى باطنه وظاهره، ومن باطنه خير من ظاهره«، ومن مثل: »التالي للقرآن غير العالم به ولا العامل بموجبه، والتالي العالم غير العالم، والتالي العالم العامل«، ومن مثل: »الموحد بلسانه المخالف بجوارحه، والموحد الذي يمنع جوارحه بالتكليف، والموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد«. أخرج الإمام أحمد والبيهقي والترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: »هؤلاء كلهم في الجنة«، وأخرج ابن النجار عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: »سابقنا سابق، ومقتصدنا ناجٍ، وظالمنا مغفور له«، وأخرج الإمام أحمد والطبراني والبيهقي عن أبي الدرداء قال: »سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: »فأما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حساباً يسيراً، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم يتلقاهم الله تعالى برحمته فهم الذين يقولون (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور«. قال البيهقي: »إذا كثرت الروايات في حديث ظهر أن للحديث أصلاً، وفي البحر المديد: إنما قدم الظالم للإيذان بكثرتهم، وإن المقتصد قليل بالإضافة إليهم، والسابقون أقل من القليل. وقال ابن عطاء إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله، وقيل إنما قدمه ليعرفه أن ذنبه لا يبعده عن ربه إلا أن هذا كله يجب أن يفهم في سياق الرسوخ في التوحيد قلباً وعقلاً وإقراراً باللسان، وإن ظلم النفس هنا لا يدخل فيه الكفر أو الشرك لأنهما يخرجان العبد من الأمة المصطفاة. ولا يدخل فيه ظلم النفس بالعدوان على الخلق وأكل حقوقهم والافتئات عليهم، وأنه قد ثبت أن الحق سبحانه وتعالى يعذب بعض أصحاب الكبائر بذنوبهم إن ماتوا عليها دون توبة منها، وللتوحيد الحقيقي المتمكن في القلب آثار لا يمكن أن تجتمع مع ارتكاب الكبائر كشهادة الزور وعقوق الوالدين والزنا وشرب الخمور وغيرها. وللمعاصي آثار ترتد على القلب فتمرضه ولا تترك فيه سلامة يعول عليها يوم القيامة فضلاً عن إنها تنغص على المرء حياته في الدنيا قبل الآخرة، ومن حسن الظن بالله حسن العمل لا التفريط والتقصير وأكل حقوق الناس ثم التعويل على رحمة الله عز وجل.