نساء الجزائر.. من عين ترزين إلى نيويورك الكثير منا لا يعرف اسم مارك قارانجيه لكن معظمنا يعرف صوره جيدا و يكون قد رآها مئات المرات على صفحات قوقل بمجرد كتابة اسم "الجزائر". صور نساء ينظرن إلى آلة التصوير باستغراب و خوف. تمت تعرية رؤوسهن للحاجة التصويرية باعتبار أن الصور كانت ستوجه إلى الإدارة العسكرية الاستعمارية التي تريد تقييد هوية سكان المداشر الجزائرية بهدف تطويقهم و مراقبة تحركاتهم. "نساء جزائريات" (1960) هو عنوان كتاب خلّد ذاك الإنجاز الذي قام به مارك حين كان مصورا في الجيش أوكلت إليه تلك المهمة. عبد السلام يخلف / جامعة قسنطينة صدمة الصورة مارك مصور و سينمائي فرنسي ولد عام 1935. تحصل عام 1966 على جائزة نيابس للتصوير الفوتوغرافي. حمله عمله إلى كافة بقاع الأرض، من أراضي سيبيريا المتجمدة إلى أراضي الأدغال في كمبوديا و الصخور في الجزائر من أجل نشر الصور على صفحات المجلات المختلفة. لقد بلغ مجموع صوره المليونين (أنظر موقعه www.marcgaranger.com(. بدأ التصوير في الخمسينيات والعمل بالأبيض و الأسود ثم سرعان ما تحول إلى الألوان عكس الكثير من المصورين آنذاك. عمل كمساعد لبروس دايل (Bruce Dale) من الناشيونال جيوغرافيك و بذلك تحددت معالم سيطرته على الروبورتاج أي العمل بسرعة كبيرة مع مواجهة كل أحاسيسه الداخلية حين يجد نفسه قبالة الضوء. لهذا فإن التصوير بالنسبة إليه هو إعادة إرسال ذلك الضوء، التقاط نظرة الآخر دون اكزوتيكية. كان وعي مارك بمسألة الثورة كبيرا، فقد نما بالجامعة في سنوات الخمسينيات بمدينة ليون، و كان قد تعرف على الدور الذي قد تلعبه الصورة في الحرب. قد تفضح الصورة الأعمال الشنيعة بطريقة لا يمكن للكلمات أن تضاهيها. البندقية و آلة التصوير خلال الثورة الجزائرية و أثناء تأديته للخدمة الوطنية كجندي بسيط أحيل للعمل الإداري في مكاتب سكرتارية القيادة العسكرية. كان قد عمل سابقا لمدة 12 سنة كمصور و كان قد حمل معه بعض الصور و بعثرها فوق المكتب. رآها القائد مرة و عرف أنه يمكن أن يعول عليه أثناء الحاجة. ذاك ما حدث بالفعل. تم تحميله عملية تصوير 2000 امرأة جزائرية تقطن معظمهن في قرى تم نقل سكانها إلى المحتشدات العسكرية بهدف تصفية الثورة و خنقها بحرمان جنودها من الآلة اللوجستيكية التي تمثلها تلك القرى التي كانت تمد المجاهدين بما يحتاجون إليه من أكل و شرب و مأوى و إحساس بالانتماء. و ما زالت صور المرأة التي تقسم خبزة الكسرة بحافة راحة يدها تربض في ذاكرة كل الجزائريين. كنت من حين لآخر أضحك مع أمي حين تقسم الكسرة بهذه الطريقة و كنت أسميها "الساموراي". كما في كل مرة، تلك حكاية أخرى.بخصوص مهمته الجديدة يقول مارك: "كنت أؤدي خدمتي العسكرية في الجزائر و لم يكن هناك محل مدني للتصوير فكلفت بتصوير سكان قرية عين ترزين (البويرة) و القرى المجاورة لها. 200 صورة في اليوم حتى وصل العدد إلى 2000 معظمها للنساء لأن الرجال كانوا إما قد صعدوا إلى الجبال وإما كبارا في السن أو مرضى لا يمكنهم التنقل إلى الثكنة". يتذكر مارك لحظة التقاط الصور التي كانت بمثابة "تعرية" للنساء لأنهن كن مرغمات على تعرية شعرهن و التخلي عن "المْحارم" (الكلمة في ذاتها تدل على قدسية غطاء الرأس). يقول مارك: "كانت الصور بالنسبة للمؤسسة العسكرية الفرنسة أداة لإنجاز وثيقة هوية و لكن بالنسبة للنساء كانت تمثل إهانة يمكن قراءتها في نظرتهن إلى المصور. لم يكن باستطاعتهن رفض الأوامر و خلع الخمار. نساء لم يكنّ قد تعرين سابقا و لم يعرضن أنفسهن للتصوير قبل هذا. كان كل شيء يحدث في صمت كامل. كنت أتحمل نظراتهن التي ترمينني بها كالرصاص. كنت أسرع في العمل كي لا يتعدى دقيقة واحدة أو دقيقتين. الكثيرات منهن مزقن تلك البطاقات بمجرد عودتهن إلى البيوت." أجنحة الصورة عطلة عسكرية واحدة كانت كفيلة بكتابة التاريخ بحيث استغلها مارك للتسلل خفية إلى سويسرا و تقديم صوره إلى ناشر هناك و تم بعدها نشرها في مجلة (L ́Illustré) بفضل شارل هنري فافرو. كانت تلك بداية رحلة مجموعة من الصور التي عبرت كل مراحل الزمن كي تستقر في الذاكرة.حين بدأ النقاش حول التعذيب الذي مورس في الجزائر دخل مارك هذا النقاش من خلال تلك الصور و صور أخرى التقطت في مناسبات أخرى. يسهل تعذيب الجزائريين في ظل نظام عنصري أسست له فرنسا حتى تتمكن من تجنيد العسكر الفرنسي و تمنحه المبرر الأخلاقي و الأنثروبولوجي. وصف الجزائريين بالحيوانات مبرر كاف لقتلهم لأنهم ليسوا ببشر. يتذكر مارك تلك الجملة التي قالها أحد الضباط حين رأى صور النساء الجزائريات لأول مرة: "تعالوا تشاهدون كم هن بشعات. إنهن يشبهن قردة الماكاك." حقد الجيش الفرنسي على الفيتناميين تم نقله إلى الجزائر و لم يكن همهم سوى الانتصار و إثبات الذات بعد هزيمة ديان بيان فو. قتل الجزائريين كان بمثابة النياشين التي تزين الصدور. صورة الضباط الثلاثة الذين طلبوا من مارك أخذ صورة لهم كانوا قدموا من الهند الصينية و ها هم الآن في مهمة الانتقام كما قالوا. الصورة التي كانت تمثل الفخر الكبير لهم غدت وصمة عار يودون لو اختفت إلى لأبد.قد يعاتب البعض مارك على أنه استفاد من نشر آلام الجزائريين و ساهم في الدعاية التي مارستها فرنسا الاستعمارية لتظليل الرأي العام العالمي. يبرئ مارك نفسه من تلك التهمة قائلا أنه لم يؤد سوى عمله و لم يساهم في التعذيب إضافة إلى أنه جرح في أحد الاشتباكات مع قوات الثورة الجزائرية. نية مارك كانت واضحة من خلال التقنية التي اتبعها، فهو لم يصور الوجوه فقط قصد انجاز بطاقات الهوية بل صوّر النساء من الرأس إلى البطن الشيء الذي يمكن من وضع الشخصيات في إطارها التاريخي و المكاني و ذلك بالتعرف على المحيط و قراءة الملابس. حدث ذلك لأن مارك كان يعرف جيدا تقنية التصوير هذه التي استعملها قبله المصور الأمريكي "كورتيس" الذي أوكلت إليه عملية مشابهة و هي تصوير الهنود الحمر. موقف مارك المعادي للتعذيب يقف في مواجهة أرمادة قوامها 600 ألف صورة ترقد في أدراج "مؤسسة السينما و الصور للجيوش" التابعة لوزارة الدفاع الفرنسية في مدينة إيفري. صوته خافت مقابل قوة البوق الدعائي الفرنسي و النداءات الاستعمارية التي ما زالت تعج بها حناجر "الأقدام السوداء" و أنصار مذهب "الجزائر فرنسية"، أولئك الذين تحنطوا في الماضي و لم يتمكنوا من التخلص من قوقعة يابسة أبقت عليهم في خانة الاستعماريين العنصريين الذين كانوا أسياد عالم فرّ من بين أيديهم و أطل على مساحات جديدة لم يعد لهم فيها مكان. ثم ماذا عن النظرة؟ قد تكون صورة القائد السعيد المحافظ السياسي لجبهة التحرير الوطني هي التي تدين مارك. السعيد تم اغتياله بعد أخذ الصورة. يرد مارك قائلا: "في يوم من الأيام تم اقتيادي إلى غرفة لآخذ صورة لرجل مجروح في ساقه الأيسر أثناء توقيفه. أخذت صورة أو صورتين ثم انصرفت دون أن نتبادل أي كلام أو حتى نظرة." بعد أيام قلائل أثبت محضر للدرك أنه توفي متأثرا بجراحه و يقول التقرير الطبي أنه تعرض لطلقات رصاص، اثنتان في الصدر و واحدة في الرأس." هذا ما يقوله التقرير. هذه هي الحرب و لم يكن مارك مسؤولا عنها.تذكرني الصورة بتلك الجملة التاريخية التي قالها ريمون بارث في كتابه "الغرفة المضاءة" بخصوص صورة مشابهة لرجل يقاد إلى المقصلة، قال: "لقد مات و ها هو يذهب نحو الموت". لقد مات الرجل فيزيائيا، تم إعدامه حقيقة لكن الصورة أوقفت الزمن للأبد و في كل مرة نرى الصورة إلا و قلنا بأنه يذهب نحو الموت. لم يمت تماما. تناقض لا تحله سوى الصورة.نية مارك من الصور تبدو في حالة الرائد بن شريف الذي تم إلقاء القبض عليه في أكتوبر 1960 من طرف القوة الاستعمارية التي أرادت إحباط عزيمة الثوار و الشعب الجزائري ككل فحضرت منشورا لتوزعه في كل مكان و طلبت من مارك أخذ صورة للرجل الذي "سلم نفسه و هو يلوح على رأس بندقيته بقطعة قماش لم تكن سوى لباسه الداخلي". كان على المصور أن يبين الذل و المهانة و ضعف النفس التي يعاني منها المجاهد. التقط مارك الصورة التي انتبه إليها الكولونيل الذي قال معلقا: "كانت الصورة تبين عكس ما نريده تماما" و تم توزيع المنشور من دون صورة. الصورة يمكن رؤيتها و هي تمثل الرائد بن شريف و كله عزم وهو ينظر باستخفاف نحو آلة التصوير في عزة و شهامة كأني به يقول "ما أحقركم". وذاك بالضبط ما أراده مارك من الصورة. تكريم الوجوه الخائفة في سنة 1984 نشر مارك كتابا يحمل عنوان (La Guerre d'Algérie vue par un appelé du contingent) أطلق فيه صرخة مدوية قائلا على الغلاف: "أرسل هذه الصور إلى كل من عايش هذه الحرب، لتحرير الكلمة و نزع غطاء الصمت الذي يلفها". لم يلق الكتاب الاهتمام الكافي و بيعت منه أعداد قليلة جدا تحرض المؤسسات الجزائرية التي تهتم بكتابة التاريخ على اقتنائه من دار النشر "لوسوي" و وضعه في كل مكتبات البلديات كي ترسم التاريخ بالأيادي التي خطته للمرة الأولى.الجميل في حكاية مارك أنه لم ينس النساء اللواتي وقفن أمامه ذات مرة و أحس بالخيبة حين نقل للعالم رؤوسهن العارية و الخوف المتألم على وجوههن فقرر عام 2004 أن يعود (ليس كما يعود القاتل على أعقابه دوما إلى مكان الجريمة)، أن يعود إلى نفس المكان الأول ليبحث عن نفس النساء كي يصورهن من جديد و تكون تلك الصور بمثابة رد اعتبار لأنها هذه المرة ستكون صورا عادية لأناس عاديين جعل منهم التاريخ الاستعماري وحوشا قابلة للإبادة. عاد مارك و كله أمل في تلقي الاستقبال الحميم و ذاك ما حدث بالفعل. تمكن من دخول البيوت الآمنة التي لم تعد تخاف القنابل التي تهبط من جحيم السماء، و التقى بوجوه مبتسمة وشحتها الحرية. لم يعد الوشم على الوجوه هذه المرة بل في الذاكرة التي تحافظ على الحبر و تحتفظ بالتفاصيل.تحصل مارك على جائزة مهرجان الصورة بنيويورك في ماي 2010 عن كل أعماله التصويرية أي عن كل الحياة التي قضاها في الركض خلف الحالات الإنسانية التي يريد لها البقاء شاهدا على العصر. كان قد عرض من جديد صور النساء الجزائريات و وقف معلقا بقوله: "كانت الصور موجهة لبطاقة تعريف لكنني أخذتها بطريقة تقدم النساء ليس كوجوه فقط بل كبشر تطفح منهم الكبرياء لأن رغبة جامحة ركبتني كي أعيد لهن كل الجمال و الأبهة و الأناقة الطبيعية. الصور تقول كل شيء، تلك الصور التي أخذت عام 1960 استرجعت معناها مع زيارتي للجزائر سنة 2004 و لقائي بنفس الوجوه". يقول لأحد الصحافيين: أعلم أن النساء اللواتي كنت أصور كن يعلمن جيدا من خلال نظراتي أنني لا أشبه العساكر الآخرين و نظرتي تقول أنني سأستعمل تلك الصور لاحقا كي أفضح البشاعات التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية في حربها ضد الجزائر". أجاب مارك عن سؤال يؤرق كل من يهتم بالصورة و الجانب الأمني: كيف تمكنت من الحفاظ على "النيغاتيف" للفلم رغم أنك تعمل في وحدة عسكرية؟ يقول: "هذه هي الكلمة التي لم ينطق بها أحد طوال تواجدي بالوحدة. كانوا يطلبون صورا و لم ينتبه أحد إلى رقاقات "الفلم" التي لا يعرف قيمتها سواي و لذا وضعتها كلها في حقيبة لم أقم بعدها بعمل جبار سوى أخذها معي بعد انتهائي من الخدمة العسكرية". للعلم فإن مارك لم يكن مصور حرب رسمي و لهذا تمكن من إخفاء الرقاقات التي سربها في حقيبته و راح يركض نحو الباخرة، "و ما زلت أركض بها حتى اليوم" يضيف مبتسما.