بعد أربع ساعات من المسير بالحافلة الخضراء، انطلاقا من محطة الحافلات ببابا علي، في ضاحية العاصمة تونس، وصلنا إلى مدينة سيدي بوزيد. قبل ذلك كنت أحاول أن أركب سيارة أجرة لأختصر الوقت وألغي الكثير من الشبهات. وقد حذرني صديقي رشيد من أن تكون هناك حواجز أمنية في مداخل المدينة تراقب وتدقق في هويات الداخلين إليها. حفظت اسم صديق نقابي وعنوانه، وقد كنت على اتفاق معه لألقيه على مسامع رجال الشرطة في حال سئلت عن سبب توجهي إلى سيدي بوزيد. فالمشكلة أن جواز سفري الجزائري مكتوب عليه المهنة ''صحفي''، وهي كلمة تهمة في حد ذاتها في تونس، وتزيد لتوها من إفرازات الغدد وشهوة السؤال لدى رجال الشرطة والبوليس في تونس. وحالما تحركت الحافلة الخضراء، لا حديث للناس فيها إلا عما يحدث في سيدي بوزيد وما جاورها. كان ذلك اليوم الذي انتقلت فيه الأحداث إلى منزل بوزيان. وكانت الأنظار مشدودة إلى هذه البلدة الصغيرة، ما خفف بعض الشيء من حدة الطوق الأمني على سيدي بوزيد، وسمح لنا بالدخول إلى المدينة دون مشاكل. قبل مدخل المدينة تتمادى المساحات الخضراء وأشجار الزيتون والمواشي والرعاة أمامك، ويحيلك المشهد كأنك في منطقة الجلفة أو عين وسارة في الجزائر، المشهد كله يوحي بأنك تدخل إلى منطقة فلاحية تعيش على الفلاحة والرعي تحديدا، النساء الملتحفات اللباس التقليدي، وبيوت تراوح بين الهيئة والعادية، والسيارات القديمة، والمحلات التجارية المتناثرة، والمقاهي البسيطة في كل شيء.... فالمشهد هنا يلغي لديك الكثير من الصور الجميلة والخدمات الراقية التي تعرف بها مدن تونس كالعاصمة وسوسة ونابل والحمامات وسيدي بوسعيد. حين نزلت من الحافلة، كان الجو باردا جدا، لكن الأحداث المتسارعة جعلته ساخنا. فملامح التوتر في كل مكان، الوجوه العابسة والمتسائلة عن المصير والمستقبل المجهول، والعيون التي تراقب كل شيء، والأطفال الذين يتناقلون الأخبار دون أن يعرفوا مضمونها، والسوق الأسبوعي الذي تعودت المدينة على أن ينتصب بها كل يوم لم ينتصب. لا أحد من السكان يريد أن يغامر بأملاكه، كان عليّ أن أتوجه رأسا إلى محل للهاتف لأتصل بصديقي وأبلغه بوصولي. لم أجد محلا قريبا للهاتف. فطلبت من صاحب محل لبيع الخردوات المنزلية خدمة السماح لي بالاتصال من هاتفه، أبلغت صديقي العضو في اتحاد الشغل بوصولي. لم يصدق بأنني وصلت، وطلب مني انتظاره في المكان نفسه، حضر للتو وركبنا سيارة أجرة وتوجهنا إلى بيته لأخذ قسطا من الراحة. كان الخوف من أن نكون تحت المراقبة هاجسي الأول، تخلصت من جواز سفري وآلة التصوير وتركتهما في البيت، وحملت معي بطاقة التعريف. اتفق معي صديقي على أن يقدمني لأي شخص نقابله بأنني صديق جزائري جاء لخطبة أخته التي تشتغل أستاذة في التعليم، كان مبررا مقنعا. الجولة الأولى في المدينة دفعت بنا لأن نكون بالقرب من اعتصام سلمي للشباب البطال أمام مقر المعتمدية، كانت الشرطة تراقب الاعتصام لكنها لم تتدخل. أبلغني صديقي بأن أوامر تكون قد بلغت لقوات الأمن بعدم التدخل العنيف، لتجنب تكرار ما حدث في اليوم السابق في منطقة سيدي بوزيان، حينما أطلقت الشرطة الرصاص الحي وقتلت شابا وجرحت ثلاثة آخرين، لكن دخول شباب ممن وصفهم صديقي بالعاملين في بعض المهن البسيطة في الاعتصام وبلوغ أخبار تجدد الاحتجاجات في منزل بوزيان وانتقالها إلى مدن أخرى، أجج المحتجين الذين كانوا يرفعون شعارات ''الأراضي تباعت والأهالي جاعت'' و''التشغيل استحقاق يا عصابة السراق''، و''الحريات والكرامة''، كانت المواجهات في حد ذاتها وتحدي الشرطة مشهدا نادر الحدوث في تونس. سيدي بوزيد ليست سيدي بوسعيد كنت أود أن أزور بيت محمد البوعزيزي، الشاب الذي حاول أن يحرق نفسه فأحرق تونس، لكن صديقي منعني وأكد لي أنني أعرض نفسي للخطر، فالأكيد أن البوليس التونسي يراقب بيته ويستعلم عن كل داخل وخارج منه. كنت أود أن اقترب من مشهد الأحداث التي بدأت بصفعة شرطية للشاب البالغ من العمر 26 سنة ومنعه من نصب طاولته لبيع الخضر، وكيف أمكن لهذه الأحداث أن تتطور إلى مستوى زلزال اجتماعي أصاب تونس بالشلل لأيام، وكيف تخرج مدينة مهمشة ومقصاة على أجندة التنمية في تونس إلى العلن وبصورة غير مسبوقة في تونس. ولمن لا يعرف سيدي بوزيد أو مدينة قمودة، وهو الاسم الأصلي للمدينة التي تحولت إلى أشهر مدينة في تونس، وألغت أسماء مدن أكثر شهرة كسوسة والحمامات وسيدي بوسعيد، وشتان بين هذه الأخيرة وسيدي بوزيد التي أطاحت ثورة الجوع فيها بالوزراء والولاة. تقع سيدي بوزيد وسط تونس وتبعد بحوالي 260 كلم إلى جنوب العاصمة، فمساحتها تقدر ب3,4% من مساحة تونس، وتعد أكثر من 410 ألف نسمة، وهي من أبرز المناطق التي تشكل سلة الغذاء في تونس، حيث تساهم بنسبة كبيرة في الإنتاج الفلاحي والزراعي، لكنها في الوقت نفسه أكثر المدن تصديرا للكوادر والإطارات، حيث تعد نسبة نجاح الطلبة بها من بين النسب الأعلى. يقول التونسيون إنها ''المدينة التي تطعّم الأحزاب السياسية بالمناضلين، وتطعم تونس بالغلال والخضار''، تتبعها 12 بلدية أغلبها تعيش على الفاقة والحاجة والفقر. وتشير الدراسة التي أعدها اتحاد الشغل التونسي حول المنطقة أن نسبة الفقر في سيدي بوزيد تتجاوز 8,12 % والإنفاق السنوي للفرد 1138 دينار تونسي (الدينار التونسي يعادل 70 دينارا جزائريا)، ونسبة البطالة في أوساط خريجي التعليم العالي يصل إلى 33 بالمائة، بفارق كبير عن النسبة العامة في تونس التي تعادل 17 بالمئة، ومستوى الخدمات الصحية ضعيف جدا، فلا يتجاوز عدد الأطباء العاملين في المستشفيات والمراكز الصحية بالولاية 45 طبيبا مختصا لأكثر من 410 ألف ساكن. هذه الأرقام تتلازم مع الظروف على الأرض، وكل شيء في سيدي بوزيد يمكن أن يكون دافعا للاحتجاج والاعتصام. لم تهدأ المواجهات في اليوم الثاني لتواجدنا في سيدي بوزيد، في هذا اليوم بدأت الصحف التونسية تنشر الأخبار الأولى وتنقل بعض ما يحدث في المدينة، ولو كان محاطا بالرواية الرسمية. قال لي رئيس جمعية رياضية في سيدي بوزيد: ''نفس هذه الصحف قالت قبل أيام إن حرق محمد البوعزيزي لنفسه ليس سوى محاولة انتحار عادية''. وكنت قبلها قد التقيت صحفيا يعمل بجريدة ''الأخبار'' الأسبوعية، والذي قال لي: ''أفضل ألا أكتب عن هذه الأحداث على أن أكتب وفقا لما تمليه الدوائر الرسمية''.. حين أوقفني الأمن في العاصمة عدت من سيدي بوزيد في نفس اليوم الذي كان مقررا أن ينظم فيه اتحاد الشغل اعتصاما ومسيرة في العاصمة التونسية، بالقرب من باب السويقة، عند مدخل المدينة القديمة. رحلة العودة كانت أكثر قلقا مما سبق. فقد أخذت الأحداث منحى كبيرا، وصار الضغط داخليا وخارجيا على السلطات التونسية، وأخذت الأصوات المؤيدة للسلطة تتعالى ضد ما تعتبره تهويلا إعلاميا، خشيت في حال توقيفي أن أكون أنا كبش الفداء الذي تعلق عليه السلطات التونسية بعضا من إخفاقها في التعاطي الميداني والإعلامي مع الاحتجاجات. فكرت في أن أخرج من المدينة مع سائق سيارة ''كلونديستان''، عملا بنصيحة صديقي النقابي. وطالبني سائق السيارة ب50 دينارا تونسيا، ما يعادل 3500 دينار جزائري لتوصيلي إلى تونس العاصمة. لم يكن أمامي غير القبول بالأمر الواقع. ولم يتم توقيفنا على طول المسافة الرابطة بين سيدي بوزيد والعاصمة تونس إلا مرة واحدة، وتمت مراقبة وثائق السيارة فقط، حيث دخلت إلى العاصمة تونس وأنا أعلم أنني أهرب من جحيم سيدي بوزيد المضطربة إلى جحيم العاصمة التونسية التي كانت تعج بالبوليس في الأيام الأخيرة. أخذت أنفاسي في فندق ''الهناء'' الدولي في شارع الحبيب بورفيبة، وتوجهت مباشرة بعدها إلى ساحة باب السويقة، سألت شيخا صاحب مكتبة عن بطحاء محمد علي، وهي الساحة التي تحتضن مقر اتحاد الشغل التونسي، وكانت ستحتضن الوقفة الاحتجاجية التي دعت إليها ست نقابات تونسية. أخذت آلة التصوير معي. فهذه من المرات القليلة والنادرة التي تشهد فيها العاصمة تونس مسيرة أو اعتصاما. كانت الساحة مدججة برجال شرطة مكافحة الشغب. حاولت أن أرتب لنفسي مكانا يمكنني أخذ صورة منه للتجمع من دون أن أثير المشاكل، وحين أخذت صورة غير موفقة، كان رجلان من الأمن التونسي يتبعان أثري، طلبا مني التوقف وسبب التصوير. أبلغتهما أن المشهد أثارني فصورت. أخذا مني آلة التصوير وبدآ في تفقد الصور، صورة صورة، اقتاداني إلى مكان قريب وطلب أحدهما حضور مسؤول في الأمن. طلب جواز سفري، وسألني عن سبب تواجدي في تونس، ولماذا أصور. أجبته بأن الأمر عادي وأنني لم أصور مفاعلا نوويا. أمر العون بمسح كل الصور، وعنفني على صورة أخذتها لشاب تونسي دفعته البطالة إلى امتهان ''مسح الأحذية''، وسألني عن الفندق الذي أقيم فيه. واتصل ليتأكد من ذلك، قبل أن يخلي سبيلي، لكنني كنت منذ تلك اللحظة تحت المراقبة، حتى عندما توجهت إلى السفارة الجزائرية في منطقة البحيرة، حيث أبلغت المكلف بالإعلام بما حدث. كنت أتوقع أن يتم استفساري في المطار لدى مغادرتي تونس، لكن والحمد لله ذلك لم يقع. والذي وقع بالفعل أنني أصبت بصدمة وفاة رئيس التحرير عثمان سناجقي، وهو الذي أوصاني بأن أكون حذرا وآخذ واحتياطاتي وأنا في تونس.