هل يمكننا الحديث عن نمو إقتصادي حقيقي في بلد يحتاج فيه مواطن ما إذا أراد فتح مقهى أو كشك أو دكان لبيع المعدنوس والدبشة أو مخبزة أو حتى إلى رخصة " طاكسي " إلى معارف السماوات والأرض ، وإلى رزمة من الوثائق والأوراق والإثباتات يقدمها في ملف يحتاج التعجيل بدراسته إلى مساعي خاصة ، وإلى وساطات وتدخلات تحتية وفوقية ؟ . هذا فيما يتعلق بأبسط النشاطات التجارية ، فما بالك إذا كان الملف المقدم يخص نشاطا أو مشروعا " ثقيلا " ؟ ، ولا أقول مشروعا إستثماريا ، فهذا أصبح مجازفة ومحل إنشغال غالبية الراغبين في الإستثمار مهما كان نفوذهم وإمكانياتهم وعلاقاتهم وقوتهم المالية ... من جوانب النصوص القانونية والخطاب الرسمي كل شيئ يضمن التسهيلات ويبسط الإجراءات والتعقيدات ، لكن عقلية الممارسة والتنفيذ تسير في إتجاه معاكس تماما . هذه المتاعب والهواجس لا يجابهها المستثمرون الجزائريون فحسب ، بل إن كثيرا أيضا من الأجانب الراغبين في الإستثمار في الجزائر يشتكون من الصعوبات والبيروقراطية الخانقة التي تحول دون تحمسهم . بل من " الغلق " الإقتصادي بأتم معنى الكلمة . الذين زاروا الجزائر من مختلف رجال الأعمال آسياويين وأوروبيين ، أمريكيين وأفارقة ... يقولون أن السوق الجزائرية مغرية جدا . والإستثمار فيها يحمل كل مبررات النجاح ، لكن القوانين وتحديدا التعقيدات البيروقراطية ، سيما العقارية والجمركية والبنكية والضرائبية ، مثبطة للعزائم والرغبات . قبل سنوات إلتقيت رجل أعمال بريطاني وكان قد زار الجزائر مرتين . وتنقل في شمالها وجنوبها . شرقها وغربها . قال : " إنكم تملكون قارة متنوعة الثراء والطبيعة . ولكم شعب منفتح مضياف . وشباب ناشط حيوي ومبدع قلما وجدته في بلدان أخرى زرتها في قارتكم إفريقيا .. وأضاف ، بإمكان الجزائر أن تطعم كل العالم ( وضحك ) ، ولم يقل بإمكان الجزائر أن تقود العالم " . يعني أنهم ينظرون إلينا دائما من باب " البقرة الحلوب ". نحن أيضا ربما أسهمنا في إعتقادهم هذا ، ولم نسع أو نقم بما يجب أن نقوم به لصالح الندية ومنطق الشراكة أو الإستفادة المربحة للطرفين . إذ نقدم أنفسنا على أننا سوقا كبيرة ومغرية لترويج سلعهم ومنتوجاتهم . أنعم علينا جيراننا بداعش ، وجهاد النكاح وأعواد الكبريت .. الواقع يشهد أننا لا نأكل مما تنتجه أيدينا وأرضنا وعقولنا وأنعامنا ... نحن بتنا نستورد حتى أعراف الكبريت وأعواد تنظيف الأسنان من بقايا اللحم المستورد ، حلاله وحرامه ، والخبز والحليب ، والتمر ، والماء والحجر ، وبقايا الدجاج والأسماك المجمدة ، وقش بختة و " فناجن مريم " ، وحتى الصابون والملاعق والسكاكين والصحون ، وأنعم علينا جيراننا ب " الحشيش " و " داعش " و" جهاد النكاح " و " كازمات التهريب " ... ثمة مشكلة بالتأكيد تحول دون الإقلاع الذي يظل رغبة وأمل وهاجس الجميع ، من سلطات متعاقبة منذ الإستقلال ، وجزائريين الذين في نهاية المطاف تتلخص مطالبهم وإنشغالاتهم في عيش كريم ورفاهية تسهل يومياتهم . صرفت الجزائر آلاف الملايير من الدولارات وملايين الملايير الأخرى من الدينارات منذ 1962 ، من أجل التمكن من هذا الإقلاع التنموي الشامل . وإرساء إقتصاد متنوع ، وتحقيق نسبة نمو سنوي مقبولة لتلبية مطالب إجتماعية وصحية وتربوية وأمنية وغذائية متزايدة بتزايد عدد السكان . بكلمة واحدة من أجل مرتبة متقدمة تخرجنا من التخلف والفقر والإحتياج ، وتحقق تلك الإنشغالات الشعبية المتعددة ، حتى ننضم إلى كوكبة الدول التي مسكت بالعلوم والتطور، وربطت آلياتها بالعمل المنتج ، والثراء المقترن بقوة الإنتاج والإكتفاء الذاتي والمردودية المقبولة . ما صرف من أموال يكفي لإخراج إفريقيا من الفقر مبالغ كبيرة وخيالية صرفتها أنظمة الحكم والحكومات المتعاقبة منذ الإستقلال ، أقول آلاف الملايير. يذكر بعض الخبراء والسياسيين بشأنها أنها تكفي لإخراج إفريقيا بأسرها من أوضاعها وليس الجزائر فحسب . يذكرون أن الإمارات العربية التي أصبحت قوة مالية وإقتصادية خليجية لم تصرف لتحقيق الإقلاع التنموي في البداية سوى 80 مليار دولار . وأن الإتحاد الأوروبي في تركيبته الأولى خصص أيضا 80 مليار أورو فحسب . الشعارات لم تحرر يبس العقول ورواسب الذهنيات خاضت الجزائر عدة تجارب وإختيارات لتحقيق نهضتها التنموية . جربنا التأميم والجزأرة والتعريب ،، فصرفنا أموال قارون ، وتبين لاحقا بأن الشعارات مهما تعددت وبلغت قوتها ومداها ، لم تحرر يبس العقول ورواسب الذهنيات . ولم تحفز الهمم والإرادات وإن أشعلت القلوب وملأت النفوس حماسا . إذ لم تبن المؤسسات التي هي الأسس الرئيسية لبناء الإقتصاد والمجتمعات الصلبة والقوية التي تسير بواقعية الظروف و " الملموس " الذي يتم تطبيقه دون إكراه ، ولكن بتشاركية فعلية لضمان نجاحه لاحقا ، في تحمل النتائج والمآلات دون تصادم . إن تعدد الجامعات والمخابر ( الكم ) لم يرتب جامعة جزائرية واحدة ضمن ال 100 جامعة الأولى في العالم . وأن توفر كل جامعة جزائرية على ما لا يقل عن 80 مخبرا علميا لم يعطنا متوجا واحدا بجائزة نوبل أو ما دونها . كنا نوزع الأرباح على الفاشلين .. جربنا الإشتراكية وتسييرها الإشتراكي للمؤسسات ، والثورة الزراعية ، فخلقنا عقلية " البايلك " ومنطق توزيع الأرباح على الفاشلين ، وعلى عمال يقضون أوقاتهم في ممارسة السياسة والإحتجاج ( من باب المحافظة والقسمة والخلية ومنطق شركاء في التسيير ... ) ، أو في المقاهي والتسكع في الشوارع ولعب الورق و" الضامة والبوكير "، أكثر من البقاء في المزارع والمصانع والإدارات . طبيعي بعد ذلك أن ينهار سلم القيم والعمل ، حيث يتساوى الذين يعملون والذين لا يعملون مادام الأجرمضمونا وتوزيع الأرباح جزافا في نهاية السنة على الجميع . لقد أنزلنا خيارات التسيير الإيديولوجي ( الإشتراكية ) الملفوف بأوصاف شيوعية ، منزلة الحكم الإلهي أو ما شابه ... فتبين لاحقا بأن هذه الثورة الزراعية التي جردت الفلاحين من مزارعهم ( بمبررات شتى ) ، ووزعت على من لا علاقة لهم بالأرض والفلاحة ، أدت إلى شل السواعد وخنق التنمية المحلية المألوفة والمتوارثة في الممارسة أبا عن جد . فنجم عن ذلك نزوح ريفي جارف أفرغ الأرياف والقرى والمداشر، وكان سببا آخر في أحزمة الأحياء القصديرية والأكواخ التي طوقت المدن الجزائرية . وما نجم عن ذلك من أزمات مازال إلى اليوم يشكل عبءا ثقيلا على الدولة والحكومات المتعاقبة ، بل المحرك والفتيل الرئيسي لكل التوترات الإجتماعية ومبعث معظم الإحتجاجات ، والهاجس الرئيسي لكل المنتخبين في البلديات . لذلك نقول أن هذا الإختيار ، وما رافقه من مجهودات ضخمة للدولة في المبالغ المخصصة للدعم الفلاحي وللتنمية الريفية قصد تحقيق الإكتفاء الغذائي ، لم تبلغ المنشود والمأمول على الأقل في تخفيض فاتورة الإستيراد الغذائي . أكثر من ذلك ، فإن سكان الأرياف تحولوا اليوم من منتجين إلى مستوردين محليين . هم اليوم يقصدون المدن لإقتناء الخبز والبيض والحليب والبصل والمعدنوس ولحم الدجاج والكسكس والفواكه ...الخ . فبدل أن يتمون سكان المدن من منتوجات الأرياف ، يحدث العكس تماما. وجعلنا من المال كل شيئ مجانا ... جربنا هيكلة المؤسسات وإعادة الهيكلة وهيكلة ما سبقت هيكلته ( مع إعتبار كلفة تلك التجارب ، من جانب المال والوقت ) . فجعلنا من المال كل شيئ مجانا : التعليم والصحة والسكن والنقل والخبز والحليب والدواء وإمتحانات البكالوريا ( العتبة ) والسيزيام ( إلغاء الإمتحان ) ، وغلفنا كل ذلك بشعارات " شعبوية " أفقدت روح التنافس وحب العمل وقيمته . الكل بات ينتظر نصيبه من مداخيل النفط التي هي نعمة زائلة بالتأكيد ، ولم نقم بإستعداد أفضل لما بعد البترول . أي نوفر بدائل أخرى . لقد حولنا الدولة في نهاية المطاف عن وظيفتها الرئيسية ، من وظيفة المرافقة والرقابة وسلطة ضبط ، إلى رتبة ووظيفة " الدولة المانحة للأرزاق " .لا أحد أصبح – فيما يلاحظ – مطالبا بالعمل ، أو ملزما بتوقيت العمل . يكفي أن يسقط الثلج أو ينزل المطر ليتعطل كل شيئ ويدخل الجميع في عطلة مرضية بما في ذلك المستشفيات والمخابز والنقل والتعليم والإدارات والمنتخبون ... ناهيك عن التزايد المخيف للعطل المرضية التي تنضاف إلى العطل الفصلية والسنوية . وأيضا ما ينجم من خسائر كبيرة تنجم عن ظاهرة الإحتجاجات وقطع الطرق وتزايد الإضرابات الشرعية وغير الشرعية . لقد أصبح قطع الطرق سلوكات عامة ، وتكاد تصبح عادية . أما الإستثناء فهو إلزام الناس بأن يعملوا وأن ينضبطوا وأن يتقاضوا أجورا " حلالا " تناسب جهودهم وعملهم ، بل على الأقل ساعات حضورهم في مؤسساتهم وأماكن عملهم ولا أقول عملهم . في هذه الحالات وفي شواهد كثيرة فإن الذين يعملون هم غالبا من يدفعون ضريبة هذا الوضع . لأن العقوبات قد تتجلى أيضا في تعميم الأجور والمساواة في الترقيات بين الذين يعملون ويكدون والذين لا يعملون . أو من خلال إسناد المسؤوليات ولو كانت في درجة قاعدية من المسؤولية إلى من لا يحملون من الكفاءة والخبرة المهنية والشهادات إلا شهادة الميلاد أو شهادة الإقامة ... هذه مراحل سلفت وإن بقيت آثارها . لها إيجابياتها وهي كثيرة . ولها سلبياتها ونقائصها وإنعكاساتها وهي أيضا كثيرة . أنا من الذين يفضلون النظر إلى الكأس بنصفها المملوء والفارغ معا . إن الذين توالوا على الحكم إنقلابا أو إنتخابا ، ضحوا وعملوا . أصابوا وأخطأوا . وإن التجارب السياسية للحكام المتعاقبين يجب الحكم لها أو عليها ، والنظر إليها وقراءتها من خلال وضعها في ظروفها والتأثيرات المحيطة بها في تلك المرحلة ، ولا ننظر إليها من خلال ظروف ومعطيات اليوم . كل القرارات والمواقف لابد أن تقرأ وتدرج ضمن سياقها الزمني حتى تكون النظرة موضوعية والحكم مقبول . لأن كثيرا من الأخطاء نجمت عن ظروف محيطة ومتطلبات وطنية ودولية . أو عن إجتهادات ذاتية أو جماعية . أو عن نقص تجربة في الحكم أو في إدارة دواليب الدولة . لكن ثمة أخطاء أرتكبت لحسابات غير مبررة أو غير موضوعية ولا أريد النبش فيما يدركه جميع الناس . بعد الخسائر الفادحة الناجمة عن أخطاء تسيير الحزب الواحد ، وبلدياته ومشتقاته من المنظمات والمؤسسات وما كان تحت وصايته أو رقابته ، وما نجم عن ذلك من إنحرافات وتضييق للحريات ، وخنق للرأي الآخر ، وتشريد للكفاءات والإطارات ، وظلم تسبب في أحداث وإنفجارات إجتماعية ، عطلت بدورها التنمية الوطنية ، وشتت القدرات ، وبعثرت الإمكانيات ... لقد أثقل ما سبق ذكره من أوضاع فاتورة الخسائر وميزانية الدولة . ومن الطبيعي أن تتراجع التنمية ونقترب أكثر من دائرة الدول المتخلفة . تنضاف هذه الخسائر طبعا ، وغيرها إلى فواتير نجمت عن كوارث طبيعية أخرى كزلزال الأصنام ( 1980 ) ، وأخرى طبيعية كفيضانات بشار وتمنراست ( 1986 ) ، وغيرها ... أو ما نجم عن الفساد والرشوة .. الرقم الذي قدمه الوزير الأول الأسبق عبد الحميد ابراهيمي ، نهاية الثمانينات مرعب ومفزع جدا ، حيث ذكر أن عمولات الفساد تجاوزت 26 مليار دولارا . تلك مرحلة مضت ، لكن إنعكاساتها تفاقمت وأوصلتنا إلى مرحلة مازالت تعقيداتها إلى اليوم . مرحلة " لا ميثاق ، لا دستور " أقصد مرحلة الذين أوصلتهم التعددية والدستور إلى إجتياح المجالس البلدية والولائية والبرلمانية ، ثم انقلبوا في شعارات : لا ميثاق لا دستور فأرسوا في خطاباتهم شعارات قسمت المجتمع الجزائري ، بين أهل الجنة وأهل النار؟. وأعطوا بتصرفاتهم ما يشبه من يحمل مفاتيح الجنة من ذلك ( من لا ينتخب على الفيس فهو كافر ) . وبدل إستدراك ما أفسده السابقون ، أوعالجوا نقائص التسيير المحلي بتكفل أفضل بإنشغالات المواطنين والإستجابة لمطالبهم ، جنحوا أكثر إلى " الشكليات " وظواهر الأشياء و " القشور " كتبديل أسماء الشوارع والبلديات وخلق فوضى التجارة والأسواق ، والمطالبة بتغيير اللباس والهندام والعادات ... وأدت خطابات وإنحرافات بعض قياداتهم وأتباعهم ، أو إستعجال بعضهم الآخر وتسرعه في الإستحواذ على السلطة كل السلطة ، أي القفز على التدرج والمرحلية إلى أخطاء فادحة إعترفت بها بعض قياداتهم لاحقا . مرحلة كلفت الجزائر خسائر فاقت 23 مليار دولارا ، إنضافت إلى خسائر الستينات والسبعينات والثمانينات . أزمة عصفت بكل مؤسسات الدولة ، وعطلت كل مشاريع التنمية ، وزجت بالجزائر في دوامة الجنون والدم والحرب الأهلية التي لم تذكر علانية . فغرقت بلادنا في مديونية خانقة أضعفت مواقفها وقوضت قراراتها داخليا ودوليا . وعجزت حكومتنا حتى عن دفع فواتير حليب الأطفال والدواء والغذاء ... وبقطع النظر عمن كان مسؤولا عما حدث ، فإن الخسارة تكبدها كل الجزائريين . وتبعاتها وأثقالها مازلنا جميعا نتحملها . أعود إلى بداية الموضوع لأعيد طرح السؤال : متى تنتهي مراحل التجارب ، ويعود الجزائريون جميعا إلى العمل ، فيأكلون مما تنتجه سواعدهم ؟ . عقود نجاعة وفق أهداف وبرامج يزكيها الشعب بممثلين حقيقيين لابد أن تكون المعيار الوحيد في تولي المسؤوليات . وفي الترقية والتنحية . الدولة ليست مطالبة بمنح الأرزاق ، ولكن بتوفير الفرص للجميع والحرص على رقابة عادلة من خلال أكفاء نزهاء لا يباعون ولا يشترون ، وهم كثيرون أيضا . ماعدا ذلك ، سنظل نكرر تجارب لن تحقق ما ينتظره الجزائريون جميعا ، ولا أقول فاشلة .