يعاني الجزائريون الأمرّين في الآونة الأخيرة جرّاء ندرة المياه المعدنية، في ظاهرة برزت بشكل محسوس عشية عيد الفطر ولا تزال مستمرة للأسبوع الثاني على التوالي وسط ارتفاع لافت للأسعار، في وقت يحمّل متعاملون المسؤولية الكاملة لمجمّع “سونلغاز” بفعل أعطال الكهرباء التي أسفرت عن اضطراب عديد الوحدات الانتاجية ومحطات المياه. وفي تصريحات خاصة ب«السلام”، توقع عبد الكريم بهلول الخبير الاقتصادي أن ترتفع أسعار المياه المعدنية خلال الأيام القادمة، مرجعا الارتفاع المفاجئ لأسعارها إلى انخفاض سعر الدينار مرتين على التوالي خلال السنة الجارية بنسبة زادت عن العشرين بالمائة، ويُرتقب أن تواصل العملة الوطنية انخفاضها، ما سيكبّد بحسبه المتعاملين الاقتصاديين خسائر جسيمة، سيما أولئك المستوردين الذين يجلبون “حبوب البلاستيك” المستخدمة في صناعة قارورات المياه المعدنية، والتي لا تحظى بدعم الدولة. “سونلغاز” في قفص الاتهام أرجع بهلول أزمة ندرة المياه المعدنية التي يعرفها معظم أنحاء التراب الوطني، إلى ارتفاع طلب المواطنين بالتزامن مع صيف هذا العام الذي تميز باشتداد معدلات الحرارة، وربط بهلول ما يحدث بسيناريو الانقطاعات المتكررة للكهرباء، ما أثرّ سلبا بحسبه على عمل محطات المياه الأمر الذي حال دون تزويد السكان بالمياه الصالحة للشرب، ما زاد أيضا من نسبة الطلب على المياه المعدنية في مقابل تراجع نسبة إنتاجها بسبب الكبح الذي طال أداء المنتجين. ويشرح بهلول أنّ المستوردين لم يستطيعوا الحفاظ على نسبة استيرادهم لهذه السنة مقارنة بالسنوات الماضية، خصوصا غداة انخفاض سعر الصرف خلال شهر فيفري ب10 بالمائة وفي جويلية بالنسبة نفسها، مستطردا: “لقد نفذت مخزونات المياه المعدنية، ما جعل الأزمة تطفو على السطح”. عدم توازن العرض والطلب أبرز مراقبون تمركز أزمة ندرة المياه المعدنية بالمدن الكبرى والعاصمة عكس باقي المناطق، على اعتبار أنّ عامل الكثافة السكانية يؤثر على العرض والطلب، إلى جانب العمالة التي تراجعت إنتاجيتها بحكم الاحتباس الحاصل منذ عشية عيد الفطر، علما أنّ الصيف الحالي لم يشهد نشاطا مكثفا في القطاع، بفعل تفضيل الكثيرين أخذ إجازاتهم السنوية خارج العاصمة. بدوره، ألصق الطاهر بولنوار الناطق باسم الاتحاد الوطني للتجار والحرفيين، مسؤولية أزمة ندرة المياه المعدنية بالمنتجين، مؤكدا أنّ مخزونات المياه المعدنية للتجار نفدت بفعل قلة العرض في مواجهة كثرة طلب المستهلكين، وأفاد بولنوار أنّ نسبة العرض انخفضت إلى حدود 40 بالمائة. الحكومة مدعوة للتدخل والمشروبات الغازية قد تشملها الأزمة طالب المتحدث بضرورة التدخل العاجل للحكومة من أجل وضع حد لأزمة ندرة المياه المعدنية ولضمان “التموين” وبإعادة النظر في السياسة الاقتصادية للبلاد عن طريق تشجيع الاستثمار الوطني والاهتمام أكثر بتنظيم القطاع التجاري، وذهب بولنوار في حديثه ل«السلام” أنّ أي زيادة ستمس أسعار المياه المعدنية ستكون غير مبررة ومبالغ فيها. في موضوع ذي صلة، عرّج الناطق باسم اتحاد التجار والحرفيين على المشروبات الغازية التي ستتأثر هي الأخرى من ندرة الأولى، بعدما تنامى انخفاض معدل تزويد الموزعين للتجار بالمياه المعدنية مرة كل ثلاثة أو أربعة أيام، بعدما كانت العملية تتم كل يومين على أقصى تقدير، في إشارة منه إلى أنّ هؤلاء الموزعين يتحملون بدورهم جزءا من المسؤولية. وعن احتمال عودة الأمور إلى مجراها الطبيعي، استبعد بهلول ذلك اعتبارا لعدة مؤشرات أبرزها الانحدار المستمر لقيمة الدينار الجزائري، مبرزا أنّ أمرا كهذا لم يحدث منذ الاستقلال، جازما بأنّ الدينار لن يعاود الارتفاع بعد نزوله. ويتنبأ بهلول بتكتل المنتجين وتحالفهم من أجل زيادة هامش ربحهم لضمان استمرار عملهم على اعتبار أن الحكومة لا تدعم سعر “حبوب البلاستيك”، ولن تدعمه، موضحا في سياق حديثه بأنه في كل مرحلة انتقالية تكون مصحوبة بأزمة، في إشارة منه إلى أن الاقتصاد الجزائري يمر بمرحلة انتقالية قد تجبر الحكومة على التخلي الجزئي عن دعمها لأسعار المواد الغذائية الأساسية من سكر وزيت وحليب وخبز وباقي المواد الحيوية. معضلة المادة الأولية ستؤزم قطاع الحليب يشدد بهلول على أنّ الفصل الثاني في مسلسل الندرة، سيطال الحليب، حيث ستزداد أزمة هذه المادة الحيوية حدة برأيه خلال الأيام القادمة بحكم أنّ الإنتاج مرتبط بغبرة الحليب التي يتم استيرادها من الخارج، والاستثناء الوحيد بنظر بهلول - قد يصنعه الحليب المدعم. وبحسب مسؤولين ومنتجين ومستهلكين، فإنّ موضوع الساعة في قادم الأسابيع سيكون أزمة الحليب، وهي ظاهرة بدأت معالمها تتشكل، مع اكتفاء الباعة بتوزيع كيس أو اثنين فحسب على المستهلكين، في مشهد ناجم بنظر البعض عن ممارسات بعض المنتجين وحوار الطرشان المستمرّ. وعلى الرغم من كون إنتاج الحليب في الجزائر قفز هذا العام إلى 800 مليون لتر، بعدما كان بحدود 410 مليون لتر خلال السنة المنقضية، بجانب استيعاب الجزائر ل20 ألف مربي للأبقار، وثمانمائة ألف بقرة حلوب، إلاّ أنّه بات من المألوف هذه الأيام رؤية طوابير طويلة تتشكّل قبيل الفجر، وتتجدد مع آخر المساء بفعل التذبذب والشح اللذين يطبعان السوق منذ أسابيع. وفي مفارقة غريبة أعادت إلى الأذهان مطبّات الزيت والسكر والبيض والبطاطا والقمح بنوعيه، أضحى من النادر رؤية حليب الأكياس متوفرا على مستوى المتاجر بفعل النقص الحاد في هذه المادة، وما زاد الطين بلّة، إقدام بعض التجار على الاستثمار في الأزمة من خلال رفعهم أسعار أنواع الحليب الأخرى، كحليب البقر الطازج وكذا الحليب المجفف. واشتكى مستهلكون وجدناهم في إحدى الطوابير بمنطقتي بابا حسن وبوزريعة بضواحي العاصمة تبرّما من الوضع، وقال حسين: “لست أفهم مسلسل الندرة الذي يمس المواد الأكثر استهلاكا، البارحة أزمة حبوب، واليوم مشكلة حليب، وغدا لسنا ندري”. بالمقابل، ينفي محمد شاقور المدير العام لديوان مهنيي الحليب، وجود “أزمة”، ويقول إنّ مصالحه قدمت حجما معتبرا من مسحوق الحليب إلى المحوّلين، بما يكفي حاجيات الطلب المحلي. ويرى شاقور أنّ المشكلة لا تكمن إطلاقا في انتفاء المسحوق، بل في استخدام الأخير من لدن المحوّلين في إنتاج الأجبان وتوابعها، على حساب الوظيفة الأساس وهي إنتاج حليب الأكياس، ما يستدعي بمنظاره معاقبة المتورطين. على طرف نقيض، يشدّد عبد الوهاب زياني رئيس اتحادية منتجي الصناعات الغذائية، على أنّ الأزمة أعمق وأبعد مما يذهب إليه المسؤولون، حيث يؤكد أنّ انقطاع المنتجين مردّه نقص المادة الأولية، وهو أمر ينضاف إلى ما يعانيه هؤلاء من تهميش وعدم تشجيع، وغض دوائر القرار للطرف عن مطالبات مزمنة بحل إشكال التسعيرة التي تبقى بحسب المنتجين بعيدة عن حقيقة السوق. في هذا الشأن، يؤكد مسيرا مصنعي “بطوش” و«ميرامار” أنّ كلفة اللتر الواحد من الحليب هي 48 دينارا، غير أنّ الحكومة تحدد السعر بخمسة وعشرين دينارا أي بفارق يقدر ب23 دينارا للتر الواحد، ما يعني “إنتاج بالخسارة” بحسب المنتجين الذين يطالبون أيضا بوضع آليات عادلة للتوزيع والتعويضات. ويقارب متخصصون القضية من زاوية وجود عدم تكافؤ في ميزان العرض والطلب، حتى وإن أقرّوا صراحة بوجود اختلالات على صعيد التموين بمسحوق الحليب، لكن هؤلاء يربطون أيضا برغبة بعض المحوّلين عرقلة خطة السلطات الباحثة عن إيقاف الاستيراد المفرط لمسحوق الحليب. وسبق لوزارة الزراعة والتنمية الريفية، أن اتهمت بعض المتعاملين باتخاذ المستهلكين ك«رهائن”، مثلما شدّدت على عقلنة استعمال مسحوق الحليب في سائر عمليات التحويل بغرض تعزيز طاقات الإنتاج الوطنية.