الصعلوك الذي لازال يخيف فرنسا لم تكف خمسون سنة من الغياب ليطمئن أعداء الكاتب. لم يكف الموت عقابا للويس فرديناند سيلين، لذلك تخترع له فرنسا الرسمية هذه الأيام عقوبة جديدة تليق بصعلكته الرفيعة. والتهمة الأبدية "معاداة السامية"، التي لا تزال تسبق الحديث عن كل قيمة في غرب الحرية المشروطة بل والخاضعة إلى نزوات اللوبيات اليهودية تحديدا. الوزير الحر الذي يجاهر بأخطر نزواته الجنسية، لم يكن حرا في الاحتفاء بواحد من أهم من كتبوا بالفرنسية في العصر الحديث, لذلك ألغى الاحتفاء الرسمي بصاحب "مدرسة الجثث" و "الموت بالتقسيط". لكنه لم يكن يدري أنه بهذا الإلغاء سيعيد الكاتب المغضوب عليه والممنوع على القراء إلى الواجهة، الواجهة التي لم يغادرها أبدا، لأن الوجاهة الأدبية لا تعرض أبدا في الواجهات الرسمية. أليس هذا الصعلوك الذي يمنعه فريديريك ميتران هو أكثر الكتاب الفرنسيين ترجمة وانتشارا في العالم في القرن العشرين؟ بدأ الأمر كله بسعي من الشخصية النافذة في اللوبي اليهودي سارج كلارسفيلد رئيس جمعية أبناء وبنات اليهود المبعدين من فرنسا، الذي قاد حملة ضد إقرار فعاليات الاحتفاء الرسمي بالذكرى الخمسين لرحيل سيلين وهو الأمر الذي استجاب له وزير الثقافة فريديريك ميتيران الذي أعلن الأسبوع الماضي عن سحب اسم سيلين من قائمة المحتفى بهم محدثا زلزالا حقيقيا في الساحة الثقافية الفرنسية التي انفجر بعض الأحرار فيها منددين برضوخ الدولة لأقلية دينية. إلى درجة أن البعض تساءل "هل يجب أن ننسى سيلين"؟ (ميكائيل رونالد ورونو شينو- في ملف أعدته مجلة ماريان بعنوان: سلين، الاحتفاء بالشخصية أم بالأثر).ولم يجد ميتيران ما يبرر به القرار سوى القول أنه تم اتخاذه بعد تفكير طويل وبعيدا عن كل العواطف، مضيفا بأن القرار لا يستهدف أعضاء اللجنة التي وضعت قائمة المكرمين.وبالطبع فإن سيلين الذي عانى في حياته من مطاردة اللوبي اليهودي له لازال يعاني إلى اليوم من نفس المطاردة، فاللوبي اليهودي "حرّم" إعادة نشر أعماله على دور نشر فرنسية، وها هو اليوم ينجح في تحريم الحديث عنه.وكان الكاتب الفرنسي من المثقفين الفرنسيين والغربيين القلائل الذين جاهروا بمعارضتهم لسيطرة اللوبي اليهودي على العالم، ومن هنا دعم النازيين وحكومة فيشي في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية.ووجه إدانة صريحة لسعي اللوبي اليهودي إلى السيطرة في روايته "موت بالدين" أو موت بالتقسيط, ونجا صاحب أيقونة "سفر في آخر الليل" من التصفية التي قام بها الصيادون اليهود بعد الحرب واضطر إلى الهرب والعيش في المنفى الدانماركي حيث تعرض للسجن. لكنه تعرض إلى مصير أبطاله بعد عودته إلى فرنسا أين عاش حياة المنبوذ والصعلوك حتى وفاته سنة1961.وحتى وإن كان سيلين ينتمي إلى سلالة الكتاب الملعونين إلا أنه كان أكثرهم دفعا للثمن حيا وميتا. الحياة السعيدة للدكتور ديستوش ولد سيلين واسمه الحقيقي لويس فيرديناند أوغست ديستوش سنة1894 واختار اسم سيلين الذي هو اسم جدته لأمه وقضى طفولة باريسية حيث كان والده يشتغل موظف تأمينات ووالدته بالتجارة, اشتغل في مراهقته في مهن صغيرة خصوصا في تجارة المجوهرات وانتسب في سن 18 إلى الجيش الفرنسي وشارك في الحرب العالمية الأولى حيث جرح جرحا بليغا في كتفه الأيمن وفق بعض الروايات وفي الرأس في روايات أخرى، ليعين بعد ذلك كملحق بمصلحة التأشيرات بالقنصلية الفرنسية في لندن التي كان يسيرها الجيش وأعتبر معوقا بنسبة سبعين بالمئة. بعد الحرب استقر بران وتزوج إيديث فولي ابنة مدير مدرسة الطب وبعد حصوله على البكالوريا درس الطب مستفيدا من البرنامج المخفف المخصص لقدماء المحاربين واعتبرت رسالة تخرجه أول أثر أدبي، وانتسب بعد ذلك إلى منظمة روك فيلر في جنيف ومنها قام برحلات رفقة أطباء إلى إفريقيا وأمريكا.وفي سنة 1926 التقى في جنيف براقصة أمريكية تدعى اليزابيت كرايغ التي قلبت حياته، إنها "الامبراطورة" التي أهداها رواية "سفر في آخر الليل". لكن الراقصة هجرته وحين لاحقها إلى كليفورنيا اكتشف انها تزوجت من يهودي، ولعل ذلك ما دعم "محبته" لليهود التي ستظهر في روايتي "سخافات من أجل مذبحة" سنة 1937 ومدرسة الجثث سنة بعد ذلك ليعلن بلا تردد أنه العدو الأول لليهود. واقترب في أواخر الثلاثينيات من اليمين الفرنسي المتطرف وانتسب إلى جريدة "فرنسا المقيدة".وخلال الاحتلال الألماني لفرنسا أيد سيلين صراحة الألمان بكتابات في الصحافة المتعاونة. وفي سنة 1944 غادر سيلين فرنسا نحو ألمانيا ثم الدانمارك، حيث عاش منبوذا قبل أن يحكم عليه بسنة سجنا وخمسين ألف فرنك كغرامة.في سنة 1951 عاد إلى فرنسا مستفيدا من عفو وبعد اغتيال ناشره روبير دونوال وقع عقدا مع غاليمار كما اشتغل طبيبا ليرحل معتلا سنة 1961.واليوم وبعد خمسين سنة من رحيله لازال الصعلوك الذي شذ عن القاعدة يخيف ولازالت فرنسا الرسمية تمتلك القدرة على محاصرة كاتب آخر من كتابها الكبار.