إن للمساكن منذ القدم في مختلف الثقافات والحضارات البشرية حرمة تعارف عليها الناس ورتبوا عقوبات تاديبية ردعية مادية أو أدبية على من ينتهكها لأن المسكن سكن لأصحابه وأمن لأنفسهم، ومستودع أسراراهم وخبايا شؤون حياتهم وغطاء خصوصياتهم التي من حقهم الاحتفاظ بها وعدم إطلاع غيرهم عليها، وقد أقر الإسلام حرمة المسكن وكونه نعمة من نعم الله تعالى على البشرية التي انتقلت بموجبه من طور البداوة والبدائية إلى طور الحضارة والتمدن، فقال الله تعالى: { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ (80) وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81 } [النحل]. وأكد على حرمتها في تشريعاته من خلال بعض الأحكام والمظاهر منها: أولا: وجوب الاستئذان: إذ أن الاستئذان على الغير قبل الدخول إلى مسكنه واجب بنص كتاب الله تعالى حيث قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [النور:27]. وبعد نزول هذه الأية علم النبي صلى الله عليه وسلم صحابته كيفية الاستئذان فعن ربعي بن خراس قال: حدثنا رجل من بني عامر قال: إنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال: أَلِجُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخادمه: «اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل؟ فسمع الرجل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذِنَ له فدخل. وقد راعى القرآن الكريم حالة عدم الإذن للمستأذن بالدخول، أو طلب منه الرجوع، أو لم يجد فيها أحدا ففي هذه الحال يجب عليه الرجوع ولا يحل له الدخول؛ ليتأكد بذلك أن الاستئذان ليس مجرد إعلام بالدخول بل طلبه فقال الله تعالى: (فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ ۖ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ۖ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [النور:28]. وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا فلم يؤذن لي؛ فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع». فقال: والله لتقيمنَّ عليه بينة، أمنكم أحدٌ سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أُبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم، فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك. وعن هزيل بن شرحبيل قال: جاء رجل فوقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن مستقبل الباب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هكذا عنك؟ فإنما الاستئذان من أجل النظر» بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلا. رغم أنه من أهل الدار. ثانيا: تحريم التجسس والنظر في البيوت بغير إذن أهلها: فعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرئ مسلم أن ينظر إلى جوف بيت حتى يستأذن» وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: اطلع رجل من حجرة في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدري يحك به رأسه، فقال: «لو علمت أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» وروي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح (وروي عن زيد رضي الله عنه قال: أتي ابن مسعود رضي الله عنه فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا فقال عبد الله رضي الله: قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به)). وقد ازدادت حرمة البيت النبوي الذي خصص ببعض الأحكام التي قد تستخلص منها بعض الآداب للمسلمين فقال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا))، كما ذم الأعراب غير المتحضرين من أهل البادية الذين كانوا ينادونه من بعيد خارج الدار باصواتهم المرتفعة بما ينم عن قلة الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)). وقد أخذت التشريعات الدولية والوطنية الحديثة بهذا المبدأ فنصت على حرمة المساكن وتجريم اقتحامها ولو من قبل السلطات القائمة دون إذن قضائي، وعلى هذا المبدأ سار عموم المسلمين في تاريخهم الذين أعطوا لبيوتهم وبيوت غيرهم وبيوت جيرانهم حرمتها ولو لم يكن جيرانهم مسلمين، ولو نظرنا في النمط العمراني لبيوت المسلمين القديمة لوجدناها مخططة بما يراعي حرمتها،، فمعظمها ينفتح فناؤه للداخل وقلما تجد شرفات تطل على الشوارع والأزقة وأبوابها ليست مشرعة مباشرة على الفضاء الخارجي. على خلاف النمط العمراني الغربي الذي زحف على بلاد المسلمين الذي لا يراعي هذا الأدب.