محمد الطاهر عرباوي، اسم ارتبط بالفترة الذهبية لبلدية قسنطينة التي عرفت الكثير من الانجازات غيرت وجه ثالث أكبر بلدية في الجزائر، لقد عرف بكونه مير "الأوراق" لكثرة ما كان دقيقا في تسجيل كل كبيرة و صغيرة تخص البلدية في مذكرة صغيرة يحملها دائما في جيبه، ترك بصمته في تاريخها بعدما منحها لقب أنظف بلدية في الوطن، كيف لا و هو المدرس الذي تتلمذ على يد مالك بن نبي و كان زميل كاتب ياسين في الدراسة. تلميذ مالك بن نبي وزميل كاتب ياسين هو واحد من أطفال الثورة الذين كبروا ليشاهدوا وطن الاستقلال من مواليد 22 فيفري 1926 بتبسة لعائلة مكونة من 12 فردا، أبوين و تسعة إخوة، يحتفل هذه السنة بعيد ميلاده التسعين، استقبلنا بمنزله الكائن بحي الكدية وسط مدينة قسنطينة، ليروي ذكريات رئيس بلدية سابق، بدأ مشواره كمدرس للغة الفرنسية، قبل أن يلج عالم السياسة. علاقاته الأولى مع قسنطينة بدأت سنوات الأربعينيات، عندما ترك مسقط رأسه ليرتاد "المدرسة العصرية"، ثانوية يوغرطة حاليا، لاستكمال مشواره الدراسي المتوسط و الثانوي، لكنه غادرها سنة 1942 بعد اندلاع الحرب العلمية الثانية، متوجها صوب باتنة، أين زاول دراسته إلى غاية السنة النهائية ليعود مجددا إلى قسنطينة و يلتحق بفوج تلاميذ "ليسي دومال"، ثانوية رضا حوحو حاليا، و ذلك سنة 1946، وهي سنة فاصلة شكلت منعرجا حقيقيا ساهم في صقل شخصيته. لقد كان واحدا من تلاميذ أكبر ثانوية في إفريقيا آنذاك، كان محمد الطاهر عرباوي، من بين أبناء الجزائر القلائل الذين استطاعوا التعلم و بلوغ البكالوريا، تماما كحال زميله في قسم الفلسفة كاتب ياسين، الذي كان يلتحق في كل مرة بثانوية رضا حوحو، رغم تتلمذه بمدرسة يوغرطة، لتعلم الفلسفة، نظرا لنقص الأساتذة في تلك المرحلة و وجود أستاذ واحد للمادة على مستوى ليسي دومال. قال محدثنا: "خلال الفترة بين 1946 و 1947، ربطتني علاقة زمالة طيبة بكاتب ياسين، ولا أزال أتذكره جيدا، كان شابا أشقرا، طويلا و وسيما جدا يستحيل عدم ملاحظته، فالجميع كان معجبا به، بل كان البعض يغار منه. كان عصبيا منذ شبابه، لكنه كان نابغة، فكثيرا ما كان أستاذ الفلسفة ينبهر بكتاباته و يعيد قراءتها على مسمع من الجميع، لقد عرف كنموذج للذكاء و التميز، تماما كما كان مشهورا بعقدته من العربية، فكونه ابنا لأبوين فرانكوفونيين، حرمه من تعلم لغته الأم و قد كان يعترف دائما بأن العربية هي نقطة ضعفه و أكثر شيء يحز في نفسه". و يواصل حديثه:"عكسه تماما، كنت معربا في تكويني، ضعيف في اللغة الفرنسية، وهو ما دفعني للعمل جاهدا من أجل تحسين مستواي، لذلك قررت في نفس الصائفة أن أستفيد في هذا المجال من تواجد مالك بن نبي في تبسة التي كان يزورها كل صائفة قادما من فرنسا، طلبت منه يوما أن يعطني دروسا مكثفة في اللغة الفرنسية، فوافق ومن هناك بدأت علاقتي به، علمني الكثير و لا أزال إلى يومنا هذا متأثرا بأسلوبه. كان دقيقا و صارما، لكنه ذو ذكاء و نظرة عميقة للأمور، له فضل كبير في حصولي على شهادة البكالوريا الكاملة مع نهاية عام 1946". أستاذ الفرنسية تلميذ الثورة بعد تخرجه من ثانوية رضا حوحو، لم تسمح له إمكانياته باستكمال دراساته العليا بجامعة الجزائر العاصمة، تخصص لغة أجنبية، فطالب بتوظيفه كأستاذ للغة الفرنسية، و بالفعل تم ذلك، حيث عين أستاذ بإحدى المؤسسات التعليمية ببلدية بن يحى عبد الرحمان بشلغوم العيد، وهي مهنة زاولها بين الفترة 1947 إلى غاية 1974، لكن و كغيره من الشباب الجزائري الواعي كانت قضية الاستقلال و التحرر مسألة مبدأ و الانتماء لجبهة التحرير و لو معنويا أمر واجب، وهو ما جعله في احتكاك دائم مع الأوساط التي كانت تصنف من قبل الإدارة الاستعمارية على أنها " متمردة"، على غرار الحركة الكشفية الإسلامية، مدرسة الوطنيين، ليتم توقيفه سنة 1956، و أخضع لاستنطاق على مستوى ثكنة منطقة الجرف، بشبهة التنكر لفضل فرنسا التي منحته منصب مدرس، و تم إنهاء مهامه التعليمية على غرار جميع الأستاذة العرب المساندين للجبهة، و تم نفيهم نحو فرنسا للإقامة تحت الرقابة. قال عرباوي بهذا الخصوص: "في سنة 1960 أجبرت على مغادرة الجزائر، لم أكن أملك في جيبي فلسا واحدا، اصطحبت زوجتي و غادرنا باتجاه فرنسا، هناك اشتغلت في التعليم و كانت هي مديرة مؤسسة ابتدائية، بعد الاستقلال، تلقينا العديد من العروض للبقاء هناك، نظرا لمردوديتنا المهنية العالية، لكننا اخترنا العودة لبناء الوطن المستقل". و يواصل حديثه: " لدى عودتنا إلى الجزائر أتينا مباشرة إلى قسنطينة، تم توجيهنا نحو دائرة الخروب، أنا كأستاذ لغة فرنسية و زوجتي كمديرة، كنا أول من أعاد بعث الحياة في المؤسسة التعليمية الوحيدة الموجودة هناك، بعد ذلك انتقلنا للتدريس في إحدى مؤسسات حي سيدي مبروك إلى غاية تقاعدنا سنة 1975، و هو تحديدا تاريخ نهاية تجربتي مع التعليم كمفتش تربوي و بداية قصتي مع السياسة". شهادات رئيس بلدية عائد من المنفى في سنة، 1975 يقول محمد الطاهر عرباوي،" اقترح علي أن أدخل الانتخابات المحلية لأترأس ثاني أكبر بلديات الجزائر و هي قسنطينة، وذلك بحكم نشاطاتي الكثيرة و تنوعها، فقد كنت مهتما بالجانب التربوي و الرياضي و حتى الفني. كانت مرحلة الحزب الواحد آنذاك، وقد فزت في الانتخابات لعهدتين متتاليتين، الأولى بين 1975 إلى غاية 1979 و الثانية من 1982 إلى 1984،و قد خضت كذلك تجربة كنائب رئيس المجلس الشعبي الولائي لقسنطينة، في تلك الفترة كانت البلدية فتية عمرها لم يكن يتجاوز 13 سنة، و كان العمل على تطويرها تحديا، ربما أكثر صورة لا تزال عالقة في ذهني عن البلدية، هي كثرة البنايات الفوضوية. ثلاثة أرباع سكان المدينة كانوا يعيشون في القصدير، أما ميزانية البلدية، فلم تكن تتجاوز المليار و 300 مليون سنتيم، يذهب نصفها لدفع أجور العمال". و يسترسل في حديثه: " حاولنا قدر المستطاع تغيير وجه البلدية، كنا رجالا و نساء، رئيسنا هواري بومدين كان قدوة لنا، وقد فتح الباب واسعا أمام أبناء الوطن المتعلمين و أعطى الفرصة للمرأة للمشاركة في بناء الوطن. و بالرغم من أن عدد سكان المدينة لم يكن يتجاوز 500 ألف نسمة، و العديد من الأحياء كزواغي، المدينة الجديدة، عين الباي و جبل الوحش، لم تكن قد استحدثت بعد، إلا أن نقص الإمكانيات جعل التغيير مسؤولية ثقيلة، في تلك الفترة كان الجميع يطلق علي تسمية " مير الأوراق أو الكارطونات"، لأنني كنت أحمل دائما في جيبي مجموعة من الأوراق الصغيرة على شكل مفكرة، أسجل فيها كل تفصيل صغير يتعلق برصيف أو بحفرة، لأعود إلى مكتبي و أباشر في إجراءات حل المشكل. في سنة 1983،افتكت بلدية قسنطينة جائزة أنظف بلدية في الجزائر، و ذلك بفضل جهود الجميع، علاقة المسؤول بالمواطن في تلك المرحلة، كانت أكثر سلاسة و ليونة، نظرا لعدد السكان و حداثة الاستقلال. في سنة 1984، أنهيت ثاني عهدة لي و تفرغت للتقاعد و حياتي الشخصية، و بفضل إصرار قريبين لي، كانا يدرسان في جامعة منتوري، قررت أن أعيد ترتيب تلك القصاصات الصغيرة و المليئة بالملاحظات و التي جمعتها و أنا رئيس لبلدية قسنطينة، لأصدر سنة 1988 كتيبا خاصا من 123 صفحة عنونته " ذاكرة رئيس مجلس شعبي بلدي"، أودعت فيه تفاصيل تجربتي و خبرة سنوات من العمل". حول بيته إلى إقامة للإستقبالات وعشق الموسيقى خلال تواجدنا بمنزل مير قسنطينة الأسبق، استقبلتنا زوجته بكل حفاوة، حدثتنا عن تجربتها الخاصة كزوجة مير، قائلة بأنها لم تكن سهلة، خصوصا بالنسبة للأبناء، معلقة:" في تلك الفترة لم يكن يعرف حتى ثمن الخبزة الواحدة"، مضيفة بأن التوفيق بين عملها كمديرة مؤسسة تربوية و التزاماتها كزوجة مسؤول، كان أمرا مرهقا، فنظرا لغياب مرافق للاستقبالات رسمية على مستوى البلدية، كثيرا ما كانت تستقبل ضيوف زوجها في منزلها الخاص،و تابعت حديثها: " مر على هذه الغرفة مسؤولون كثر، أذكر منهم رئيس بلدية مارسيليا و باريس و بلدية الكويت و أسماء كثيرة أخرى". أما عن الجانب الآخر من شخصية زوجها، فقالت بأنه إنسان يعشق الفن و الموسيقى، و قد تأثرت كثيرا لأنه لم يجد الوقت يوما، لتعلم العزف على آلة موسيقية ، كما لم يتمكن من توريث حلمه لإحدى بناته".