المدينة الجديدة علي منجلي .. متاهة تزيد من غربة أهلها «هنا معسكر» كتبت بلون أسود فوق اللوح الإشهاري الموضوع عند مدخل المدينةالجديدة علي منجلي ، تعبيرا من الذين كتبوها عن سخريتهم من واقعهم الجديد المرتبط بالإقامة في هذا التجمع السكاني الذي يضم اليوم أكثر من 200 ألف نسمة ، أغلبهم قدموا إليه من وسط مدينة قسنطينة وضواحيها في إطار ترحيل قاطني السكنات الهشة والأحياء القصديرية . هذا التجمع ارتبط في بداية نشأته بحوادث عنف واعتداءات جعلت البعض يطلق عليه إسم « قندهار « الأفغانية ، وغيرها من الأسماء المثيرة وهم ينعتونها ب « كونجلي « للدلالة على بردها القارص في فصل الشتاء الذي لا تنفع مع خرسانة بيوته الإسمنتية الحديثة المدفأة العادية ، إلى حد اللجوء إلى سد الشقوق وجميع المنافذ التي تفسر كثرة حوادث الإختناق بالغاز التي استدعت الإستعانة بمكبرات الصوت وبتكثيف حملات التحسيس وسط السكان لدعوتهم إلى تغيير هذه السلوكات الخطيرة ، وتجنيد الأئمة في مواجهة الكثير من المظاهر التي التصقت بظهور مدينة جديدة طرحت إشكالات قانونية وصراعا كبيرا بين بلديتي الخروبوقسنطينة حول حقهما في هذا الوعاء العقاري وتسييره، وصعوبة تأقلم سكانها مع هذا المحيط الجديد وهم يحاولون أن يستعيدوا بعض اللحظات الهاربة من حياتهم القديمة ، في حنين إلى أول منزل ، عرف بعض التجار كيف يستغلونه لصالحهم . « منجليون» يحتفظون بأسماء أحيائهم القديمة رغم التوسع العمراني الكبير الذي شهدته المدينةالجديدة علي منجلي في السنوات الأخيرة ، خاصة مع تزايد وتيرة إنجاز المشاريع السكنية التي أنبتت مئات البنايات في ظرف قصير ، بفضل الإستعانة بالمارد الأصفر الذي حول حلم امتلاك سقف بيت إلى حقيقة ، وألغى طريقة البناء التي كانت تشيخ فيها الرافعات وهي متسمرة لعدة سنوات أمام هياكل ينخرها الصدأ وتتعرض للنهب والتخريب قبل أن توزع مفاتيح شققها البائسة ، إلا أن من يزور المنطقة لأول مرة يجد صعوبة كبيرة في التنقل داخلها ، لغياب اللوحات الإشهارية التي تدل على أحيائها ومرافقها باستثناء اللوحة الإشهارية الكبيرة لسوق « الريتاج «المثبتة عند مدخل المدينة وفي عدة نقاط أخرى بداخلها للترويج لهذه المساحة التجارية التي تعرف إقبالا كبيرا عليها من مختلف البلديات المجاورة بما فيها ولايات مجاورة، بالإضافة إلى لوحات الأطباء والمؤسسات الخاصة التي تزاحم لوحات توقف الحافلات لإصطياد زبائنها . وهي المعاناة التي يقول عدد من السكان الجدد الذي التقينا بهم بأنها تضطرهم للإستفسار من المارة كلما أرادوا قضاء بعض الأمور الضرورية ، كاستخراج شهادة ميلاد أو الذهاب إلى المستشفى ، وغيرها من الخدمات التي يحتاجونها في غياب لوحات إشهارية تشير إلى أماكنها . وحتى القاعات الرياضية والثقافية تتطلب مرشدا للوصول إليها لتواجدها داخل أحياء مغلقة، لا يعرف حقيقة نشاطها إلا من يجاورونها. فكثيرا ما تجد سيارات متوقفة تطلب من يدلها على وجهتها بعد أن تتعب عجلاتها من الدوران في أماكن مجهولة العناوين والطرقات. والظاهرة تشتد مع الدخول الجامعي وتسجيلات الطلبة الجدد الذين يدوخون وسط هذه المتاهة وهم يتوقفون لعدة مرات من أجل الإستفسار عن مكان أكبر مركز جامعي بالشرق يفتقد إلى لوحة إشهارية تدل عليه . وبين حوالي 20 وحدة جوارية تضم العديد من الأحياء ومئات السكنات التي يصعب التنقل داخلها ، اكتفت بلدية الخروب بإطلاق إسم الشهيد بلحرش وجيش التحرير على محورين منها ، والمحور الثالث الواقع عند أحد مفترق الطرق نصبت فيه لوحة يصعب فك معادلتها الرياضية إلا للعارفين بتسمتها المتعلقة برقم الوحدة الجوارية والأحياء المتفرعة عنها، وجد فيها « المنجليون « فرصة أخرى للتنكيت عن واقع الغربة التي يعيشونها . وفي مواجهة هذا الترقيم الذي أفقدهم هويتهم ، احتفظت التجمعات السكنية الجديدة بأسماء الأحياء التي تم ترحيل سكانها إليها « القاهرة» « والفوبور» و» نيورك»، أو إطلاق إسم نقطة توقف الحافلات عندها كما هو الحال بالنسبة ل «الفيراج» القريب من مقر الدرك الوطني . «هريسة البطحة» و»وقهوة سيدي بوعنابة» ووسط هذا الفضاء المفتوح الذي زاد من غربة السكان الجدد الذين وجدوا صعوبة في التأقلم معه ، يضطر البعض إلى التنقل يوميا إلى حيهم السابق بوسط مدينة قسنطينة ،للتشبت بإنتمائهم القديم الذي يمنحهم بعضا من الدفء الذي افتقدوه منذ أن رحلوا عن جيرانهم وأبناء حومتهم ، وهم يتمسكون بارتياد مقهى ودوش ومسجد الحي الذي غادروه بسبب أزمة السكن ، ،مقابل انتشار ظاهرة تجمع أبناء الحومة في بعض النقاط التي أصبحت تعرف باسم مرتاديها ، حيث يلتقي أبناء ربعين الشريف وطريق جديدة عند «محل رضا» للتبغ والكبريت القريب من سوق «الريتاج» ونفس الحل لجأ إليه أبناء السويقة ورحبة الصوف والأمير عبد القادر وباردو للتخفيف من وطأة هذا الفراغ . وقد عرف التجار كيف يستغلون هذا الحنين إلى أول منزل ، وهم يسارعون إلى اختيار أسماء مأخوذة من المدينة القديمة، من «محل السويقة للأفراح» إلى «هريسة البطحة» و»مطحنة الشط» و «قهوة سيدي بوعنابة» وغيرها من التسميات الملفتة التي أسر لنا صاحب محل « هريسة البطحة» بأنها امتداد لنشاطه المعروف به في وسط مدينة قسنطينة ، و قد فتح هذه النقطة الجديدة نزولا عند رغبة زبائنه القدامى الذين كثيرا ما ألحوا عليه بتوسيع نشاطه إلى المدينةالجديدة لأنهم يفتقدون طعم حلوته الشهية ، وتهافتوا على محله منذ أول يوم وهم يمنون النفس بصينية الهريسة التي لا يمكن أن تخطئها حاسة الشم . وهي الأجواء التي دفعت ببعض السكان خاصة القاطنين بوسط المدينةالجديدة إلى التأكيد بأنهم بدأوا يستعيدون «ريحة السويقة « و «رحبة الصوف « و أحياء علي منجلي أصبحت تجمعهم اليوم بمن فارقوهم منذ عدة سنوات بعد أن توسع هذا الوعاء العقاري ليشمل مختلف المشاريع السكنية ، من سكنات تساهمية وترقوية وغيرها من الصيغ التي حولتها إلى قبلة للراغبين في الحصول على سكن بعد أن كانوا ينفرون من الإقامة بها لما كان يتداول حول أعمال العنف التي شهدتها مع ترحيل أول الأسر إليها ، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الشقق بها في الفترة الأخيرة ، حيث وصل سعر شقة من غرفتين بما يعرف ب «مفتاح» إلى أكثر من 200مليون سنتيم ، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الكراء بها خاصة بعد ارتباط إسم المدينةالجديدة علي منجلي بإقامة العرسان الجدد بها لأنها توفر شققا للكراء ، بما يضمن لهم الإستقلالية التي أصبحت من بين شروط الزواج ، وهناك عمارة مشهورة يطلق عليها إسم «باطيمة لعرايس « لأن كل قاطنيها التحقوا بها يوم عرسهم . وإن كانت هذه الظاهرة قد خلفت معاناة أخرى ناتجة عن التنقل من بيت إلى آخر ، في انتظار إنجاز سكناتهم الجديدة ، وتدبر أمر فتح بيت جديد الذي يتطلب توفير مبلغ من المال لايقل عن 60 مليون سنتيم للدفعة الأولى بما يجعلهم يغرقون في الديون أكثر فأكثر وهم يستدينون من أجل دفع تسبيق البيت الذي يستأجرونه بصفة مؤقتة . بالإضافة إلى اكتشاف حالات تحايل أزواج أوهموا أهل العروسة بامتلاكهم سكنات تبين بأنها كانت مجرد فخ للفوز بابنتهم ، انتهى بعضها بالطلاق فيما رضخت أخريات إلى الأمر الواقع في انتظار أن يؤمن لهن أزواجهن البيت الموعود. وهو الحراك الكبير الذي حول علي منجلي إلى ورشة مفتوحة يشكو سكانها من غبارها الذي لا ينقطع ، الذي زاد من الإصابات بأمراض الحساسية إلى حد أن قسم الإستعجالات بمستشفى المدينة يجد صعوبة كبيرة للتكفل بالحالات الكثيرة التي تصله يوميا لإسعافها من ضيق التنفس ، بالإضافة إلى خطر انتشار الأوساخ التي عجزت الحاويات القليلة والصغيرة الحجم من جمع نفاياتها ، وبقاء أكوام الردم الناتجة عن التعديلات داخل الشقق والمحلات مرمية في الطرقات ، تؤكد بأن حلم تجسيد « المدينة القطب « مازال بعيدا ، خاصة وأن عدد من السكان الذين تم ترحيلهم من البيوت القصديرية أو المهددة بالإنزلاقات والإنهيارات ، وحتى من دفعوا أموالا مقابل الحصول على مسكن وجدوا أنفسهم محاصرين بمشاكل التسربات و تعفن المحيط بمياه الصرف وتشقق بيوتهم الحديثة التي اضطروا إلى تزفييتها وترقيعها في صور منفرة ، بحيث يمكنك أن تشاهد شرفات مطلية بالأسود وأخرى آيلة للسقوط وقنوات صرف المياه القذرة الملتصقة بالجدران الخارجية لعدد من العمارات المتواجدة بأهم الشوارع الرئيسية وهي تصب في العراء ، بعد أن عجزت أكياس البلاستيك وقطع القماش و « السيلانات « من رأب انكساراتها وعيوبها . صفية / ب تصوير:ع.عمور