نتذكر ونحن نتجوَّل بين أعمال زينب سديرة عبارة إيميل سيوران «المياه كلُّها بلون الغرق» وتنسحب العبارة على الدماء، والحبر، كما البحر والهواء وما يسيلُ من أفكار يتمُّ تجميعها في حوض الذاكرة، قبل أن نغرف منها لاحقاً بكلِّ ما فيها من مرارةٍ وملوحة، أو كما هو مذاقُ ذاكرة الشعوبِ التي عانت ويلات الحروب والشتات. سيكون هنا للنّكتةِ والحسّ الساخر شكل الفقاعة التي تعلو نائية بنفسها عن الحوض الكبير، كهامشٍ، كقارب نجاة أخير، كعنوانٍ لحكايةٍ جديدة ستُروى بطريقة (غير مستعملة). الكتالوغ الّذي بين يديك أحمر، بخط بارز كُتب على غلافه اسمُ الفنانة بلون أسود، وعنوانُ معرضها الاستعادي «شؤون جوية.. هراء بحري» الّذي يضمُّ ثلاثة أعمال جديدة بالإضافة إلى أعمالٍ أخرى تعكس رؤيةً خاصّة للفنانة نحو قضايا الهجرة، واللّغة والتاريخ الشفوي، والحداثة والهُوية الوطنية. رؤية تتأسس على البحثِ في السّير الذاتية والذاكرة الشخصية المتوارية خلفَ ستائر الزمن وتحت أقبية الصمت المظلمة. كان صباحاً مشمساً في الشارقة، عاصفاً وبارداً في الجزائر، حين التقيتُ زينب سديرة، تجرُّني أسئلة حول أعمالها التي تمدّ جسور تواصل قوي بين ثقافات المنطقة ككل. خاصة ما تعلَّق منها بمقارباتٍ فنية للتاريخ والذاكرة الشعبية، لاسيما خلال سنوات التسعينيات في الجزائر. تقول زينب: «الشعب الجزائري في هذه اللّحظة، يحاول طيّ صفحة الماضي والمضي قُدماً، لكن ليس نحو دروب النسيان. إنَّما للتعامل مع تلك الأحداث والمجازر بطريقةٍ لا تنسينا قسوتها، بقدر ما تجعل الفنانين الذين شرعوا مؤخراً في تناول تلك الأحداث في أعمالهم المختلفة، يقدِّمونها لجيل اليوم بعينٍ حادَّة ترى أعمق من التاريخ الرَّسمي وتتقصّى ما هو شخصي وأكثر إنسانية». «لم يكن البحث في أرشيف الجرائد والكاريكاتور خالياً من المصاعب». تواصل زينب كلامها، «وتطلّب الأمر مساعدة الأصدقاء وحتّى شراء جزء من ذلك الأرشيف أحياناً». تضحك. وعند عودتها إلى الجزائر سنة 2005 بعد غياب سنواتٍ طويلة، التقطت سديرة النُّكت الشفوية التي كانت تسمعها في الشارع، المقاهي، وحافلات النقل، حول المأساة. لتُشرع في كتابتها وتمسي لاحقاً جزءاً من عمل تركيبي: «ضحك في الجحيم». يُضاف له اشتغالها على الصحف والجرائد التي كانت تصدر في تلك الحقبة وما قدمته من مقالات ورسومات كاريكاتورية كشكلٍ مهم جداً من أشكال المقاومة آنذاك. حيثُ نجد في جناح: «الصحفيون ]المُدانون [المنسيون في العشرية السوداء» معاينة للفكاهة المُظلمة التي ظهرت خلال تلك الفترة، ويُقارب هذان العملان كيفية توظيف النكتة كوسيلة لاستيعاب الصدمة العاطفية داخل المجتمع. في غرفةٍ تركيبية تجدُ نفسكَ وسط الجحيم، وحولك ضحكاتٌ كثيرة، تسمعُها وسط عزف الرَّصاص، وأصواتِ القنابل والتفجيرات. (العمل من برنامج الإنتاج في مؤسسة الشارقة للفنون لسنة 2014). تؤكد سديرة أنّها شرعت في العمل عليه قبل أحداث شارلي إبدو لكنّها أجلت عرضه حتى لا يتمّ الخلط بين الحدثين، رغم أنَّ السبق كان لها في مقاربة موضوع الفكاهة والنكات في مواجهة كلّ أشكال العنف والظلامية. ويضم هذا المشروع رسومات من قبل الفانين لونيس دهماني وجيبس. كما لنا أن نغرق في التفاصيل: مستندات أرشيفية، فيديو لصحفيين يتحدثون عن أهمية الكاريكاتور، كتب عن الصحافة في الجزائر، مُلصقات، جرائد على غرار جريدة «المنشار»، ورق جدران، ألواح متنقلة، رسوم متحركة. ثمّة نوعٌ من الأناقة التي تمنحك إياها مكاتب الصحفيين، ترتيبٌ شفّاف للأشياء، يجعلك تتابعُ مسار الرسوم الكاريكاتورية بأحجامها الكبيرة أو تلك التي خلف الزجاج في الصفحات الأولى للجرائد، أو في كتابٍ تتصفّحه بيدٍ مرتعشة وأنت تسمع صوت الآلة الكاتبة، تكتب حروفها أسماء أزيد من 100 صحفي اغتيلوا خلال السنوات الأولى من العشرية السوداء من مختلف وسائل الإعلام. «الجزائر هي البلد الّذي قدّم أكبر حصيلة للصحفيين ورسامي الكاريكاتور المغتالين آنذاك» تصمتُ قبل أن تشيرَ إلى النصوص الثمانية المؤطّرة والكتب الثلاث التي تعتبر كرونولوجيا للدور الهام الّذي لعبته الصحافة خلال تلك الحقبة. تتجاوز زينب سديرة فكرة التوثيق، إلى نوع من كتابة السيرة أو ما يمكن أن نسمّيه الاستمرار في جمع المواد الأرشيفية، التاريخ الشفوي والرسوم والمقالات والجرائد والكتب، كي تضعَ مساراً خاصّا للذاكرة الجمعية، بمنأى عن التاريخ الرسمي، يستند على الشهادات الحية والتاريخ الفردي للأشخاص. في ظلّ صحوة فنية ولو متأخّرة تنحو باتجاه دحض النسيان بعد التعافي من صدمةِ الدّم التي ظلّت تطارد الشعب الجزائري لسنوات لا يزالُ أثرها باقٍ إلى اليوم. لعلّ صوت المقاومة ظلَّ حاضراً في كلّ قطعةٍ، أتقنت الفنانة وضعها في مكانها، منسجمةً مع مانيفستو الصحفيين والمبدعين، أو ما يمكن أن يختصره الطاهر جاووت المُغتال في عبارة وضعتها الفنانة مُترجمة إلى الإنجليزية في إطار: «إذا تكلّمتَ قتلوك وإذا سكت قتلوك إذن تكلّم ودعهم يقتلونك!». تذهب مشاغل زينب سديرة إلى أقاصي الذاكرة، يقودها شغفٌ لإضاءة عتمةِ التاريخ، تطأ مناطق شائكة، وتمضي في مساءلة الماضي بحرفية عالية. ذلك ما يظهر في عملها الفني الفوتوغرافي «حارسات الصور»، أين تظهر على يسار الشاشة صفية كواسي أرملة المصور المعروف محمد كواسي الّذي كرّس حياته لتوثيق الثورة الجزائرية بالصور، والاستقلال بعد عام 1962. وهو ما يظهر في النصف الثاني من الشاشة: صور بالمئات بالأبيض والأسود لمرحلةٍ هامة في تاريخ الدولة الحديث. لكن من منظور عامة الناس وليس من منظور القادة السياسيين أو النُخبة الحاكمة. وهكذا يواصل البورتريه الّذي التقطته سديرة لصفية التي أصبحت حارسة هذه الصور بعد وفاة زوجها؛ مسيرة استعادة الذاكرة ضدّ مدّ الشيخوخة والعزلة. *** تحضر قوارب الداو الخشبية كتيمة أساسية في عمل الفنانة زينب سديرة التركيبي «قصص غارقة». حيث استخدمت نماذج السفن البحرية انطلاقاً من حطام السفن في المنطقة، تلك التي كانت تنقُل إلى جانب السلع والبضائع، البشر والثقافات من داخل وخارج منطقة الخليج العربي. هناك ملمحٌ بيئي في عملها «هراء بحري وحكاية مائية أخرى» وكيف تؤثر الأفعال البشرية على الحياة البحرية. كما أنّ عمل «هياكل محطمة وعمارة المهجورين» وهو عبارة عن سلسلة صور فوتوغرافية يستحضر المسار المعاكس للمهاجرين الذين يغادرون الساحل الموريتاني نحو جزر الكناري. أمّا في عملها التركيبي «شؤون جوية» تعيد سديرة رسم المسار التاريخي للخطوط الجوية وإنتاج رحلة مصورة باستخدام وثائقيات رحلتها من صور وملاحظات وخرائط ومواد أرشيفية أخرى، انطلاقاً من أوّل مطار في المنطقة (1932–2017) والّذي أُنشئ في منطقة المحطة في إمارة الشارقة. أعمال الفنانة زينب سديرة تقترب من ال30 عملاً وتمتد على مدى 17 عاماً، موزعة عبر ثلاثة أروقة بساحة المريجة في معرض استعادي تقدّمه مؤسسة الشارقة للفنون في الفترة ما بين 16 مارس و16 جوان 2018. *** أسست زينب سديرة عام 2011 برنامج «آريا» للإقامة الفنية في الجزائر. وهو برنامج يهدف إلى استقبال فنانين وخلق حوار بين شرق آسيا وشمال إفريقيا. وقد تم ترشيح الفنانة لجائزة بريكس مارسل دوشامب (2015) وكانت ضمن الفنانين المشاركين في برنامج الإنتاج لمؤسسة الشارقة للفنون (2014). كما حصلت على جائزة سام للفنون، باريس (2009) وجائزة ديسيبل، مجلس الفنون، لندن (2004). تستعدُّ سديرة لجولةِ معارض جديدة عبر مدنٍ عدّة منها: تورنتو، باريس، لشبونة، فالنسيا. أمّا عملها الأهم في المرحلة القادمة فهو الاشتغال على السينما في الجزائر بعد 1962. تقول زينب: «لقد ذُهلت عندما رأيت الأرشيف العظيم لأفلام فرنسية، إيطالية، روسية وغيرها، أشرطة لا يمكن عدٌّها لأفلام ووثائقيات، بوستيرات وملصقات عروض. لقد رغبت في البكاء حين اكتشفت فيلم طرزان منذ الأربعينيات. وقلتُ في نفسي ماذا لو اندثر كلُّ هذا الكنز، الأفلام في ذلك الزمن كانت جميلة ورائعة، لكنّها في الوقت نفسه كانت طريقة للمقاومة».