يُعاني العشرات من مُستعملي قطار البحر الرابط بين قسنطينةوسكيكدة من العديد من المصاعب على طول مسار السكة الحديدية، فرغم أن المسافة بين الولايتين ليست طويلة جدا، إلّا أنّ القطار يستغرق ساعات للوصول ويتعرض خلالها للرشق بالحجارة، بينما تتحول المقطورات إلى حمامات ساخنة، يخترقها ضجيج المحركات وصوت اصطدام النوافذ بأغصان الأشجار واهتزاز الأرضية. النصر نقلت هذا الروبوتاج، ورافقت فيه المسافرين في رحلة على متن القطار المذكور، الذي يتيح أيضا جانبًا آخر من المتعة، تختلف عمّا توفره الرحلة في السيّارة أو الحافلة. النّهوض على الرابعة صباحا لركوب القطار تقربنا من أعوان محطة القطار بحي باب القنطرة بقسنطينة للسّؤال عن القطار الرابط بين قسنطينة ومدينة سكيكدة، أو كما يعرف باسم «قطار البحر». أخبرنا الأعوان بأنه ينطلق حوالي الساعة السادسة صباحا. سألناهم مجددا عن موعد مرور القطار القادم من الصحراء بمحطة قسنطينة، فأوضحوا لنا بأنه معطّل وغير متوفر خلال الأيام الجارية، ما جعلنا نقرّر السّفر في الرّحلة المتوجهة إلى سكيكدة باعتبارها أقرب مدينة ساحلية من ولاية قسنطينة، والأكثر جذبا للمواطنين. وبعملية حسابية بسيطة تبين لنا بأنّ التوجه إلى البحر عبر هذا القطار يتطلب الاستيقاظ على الساعة الرابعة صباحا أو بعدها بقليل من أجل التمكن من الوصول في الوقت المحدد، بحسب المكان الذي يقطن فيه المسافر. وصلنا إلى المحطة حوالي الخامسة والنصف صباحا. اقتنينا التذكرة المُحدّد سعرها بمائة دينار من الكشك المخصص لذلك، وجلسنا بقاعة الانتظار، التي كانت مكتظة بشكل نسبي بالمواطنين، فُرَادَى ومجموعات، فمنهم أسر مكونة من الوالدين والأطفال والرُّضَع ومنهم نساء مع بناتهن فقط، ومنهم شيوخ وكهول وشبان. ولاحظنا خلال انتظارنا لقطار مدينة سكيكدة، أحد المُواطنين اسْتلقى بِجَسده على مقعدٍ موجود في زاوية القاعة، وكان يغط في نوم عميق. لم يكترث له الأعوان في البداية، فقد كان أحدهم منشغلا بحراسة الباب المؤدي إلى رصيف الركوب، قبل أن يتقدم صديقه من النائم ويوقظه، مطالبا إياه باتخاذ وضعية الجلوس. أبدى المعني رفضا، ثم ما لبث أن جلس مثل بقية المسافرين، بعدما تحلّق حوله ثلاثة أعوان. كان المسافرون يحملون معدات مختلفة على غرار الشَّمْسِيّات، توحي بأنهم يقصدون البحر من أجل قضاء يوم هناك، فيما كان آخرون يحملون حقائب ظهر. أعلن العون المكلف بحراسة الباب عن وصول قطار الضاحية المتوجه إلى بلدية زيغود يوسف، فقام عدد قليل من الأشخاص، في حين واصل الآخرون انتظارهم. وعند الساعة السّادسة تماما، وصل قطار مدينة سكيكدة بعد أن سَبقهُ صَفِيرُهُ، فانطلق الجالسون دفعة واحدة نحو الباب الضيق، وكان عددهم يُقدّر بحوالي ستين، بحسب ما لاحظناه. حَرَصَ العونُ على مراقبة تذاكر الجميع، وما إن بلغوا جميعا رصيف المحطة حتى أغلق الباب وأوصده لمنع أشخاص آخرين من الخُروج. وقد لاحظنا بعض عمّال المحطّة التابعين للشركة الوطنية للنقل بالسكك الحديدية يضطرون إلى الطرق على الباب وانتظار قدوم زملائهم ليفتحوا لهم من أجل الخروج نحو الرصيف. الفَصْلُ بين الشبّان والعائلات في العربات صعِدنا سلالم القطار ودخلنا إلى إحدى المقطورات المخصصة للرّكاب، ثم اتجهنا صَوب أول مقعدٍ على جهة اليمين. جلس بالقرب منّا شابّان وسيدة مع ابنتها الشابة ورجلٌ مع مجموعةٍ مِنَ الأطفال الصّغار، في حين اتّجه مُسافرون آخرون إلى المقطورات الأمامية. وقد اخترنا المقطورة الواقعة في المنتصف حتى نتمكن من ملاحظة حركة أعوان الأمن المُكلّفين بالحرص على سلامة القطار والمسافرين، بالإضافة إلى الركاب، فكانت العصا الغليظة التي يحملها الأعوان مع المصباح القوي أول ما انتبهنا إليه، قبل أن يتجه الأعوان إلى الشبان والمراهقين ويطلبون منهم التوجه إلى المقطورات الخلفية حيث لا توجد عائلات. وهو نفس الأمر الذي تكرر خلال رحلة العودة أيضا. ورفض بعض الشبان تغيير مقاعدهم، لكنهم سرعان ما امتثلوا لأوامر الأعوان، خصوصا عندما وضع أحد الأعوان شابا أمام الأمر الواقع بالقول «لو كانت أختك أو والدتك على متن القطار، فهل كنت لترضى بأن تجلس وحولها الشّبان؟» وقد تناهى إلى أسماعنا بعض من صراخ الشبان وقهقهاتهم العالية من المقطورة الخلفيّة، خصوصا عندما دخل القطار نفق باب القنطرة، فتسرب دخان محرّكه من النّوافذ المفتوحة، ما أصاب المسافِرين بحالةِ هلع، لأنّ كثيرا منهم ظنّ بأن حريقًا ما قد نَشَبَ في المحرّك، في حين أُصيب آخرون بالسُّعال، لكن المشكلة سرعان ما اختفت بمجرّد خروج القطار إلى النور من الجهة الأخرى للنفق بالقرب من منطقة بكيرة. وأوضح لنا أحد المراقبين بأنه علينا أن نُغْلق النوافذ لتجنّب إصابتنا بالحجارة في حال تعرض القطار للرشق، فتقبلنا نصيحته وقمنا بإغلاقها، خصوصا وأن الحر لم يكن قد اشتد بعدُ في الساعات الصباحية، كما أن رحلة الذهاب لم تتعرض للرشق إلا مرة واحدة عند مدخل مدينة سكيكدة، أين رمى شخص مجهول حجرا كبيرا اصطدم بالهيكل الحديدي دون أن يصيب النوافذ. رحلة فوق مقاعد حافلات النقل الحضري وتحت رحمة الضجيج وانتبهنا خلال رحلة الذهاب إلى أن أحد المسافرين قام وأحكم إغلاق باب القطار بنفسه، بعد أن ظل مُوَارِبًا، لكن الباب الذي يفصل بين دَفّتَيه عمود معدني أسطواني لم ينغلق تماما، فعاد المسافر إلى مكانه بعد أن فشل في المهمة. وقد شعرنا ببعض التعب من المقاعد المستعملة في القطار، فهي لا تختلف عن المقاعد الصلبة الموجودة في حافلات النقل الحضري المركبة محلّيا. أمّا الإنارة داخل القطار فكانت خافتة جدا عند الدخول في الأنفاق، لأن أغلب المصابيح معطلة، ما يضطرّ أعوان الأمن إلى استخدام المصابيح اليدوية للتنقل في القطار، خصوصا نحو المقطورة التي يتواجد فيها الشبّان، خوفا من تسجيل مشاكل أو شجارات أو وقوع عمليات سرقة بحسب ما أوضحه لنا أحد الأعوان، لكن لحسن الحظ، لم يضطر أي منهم إلى استخدام العصا الغليظة ضد أي من المسافرين. ويسجل «قطار البحر» مروره بمختلف المحطات الواقعة على المسار الرابط بين الولايتين، فهو يحمل المواطنين من عدة بلديات بقسنطينةوسكيكدة، كما أنه يمثل وسيلة تنقل حيوية بالنسبة إليهم بين البلديّات، لأنّه لا يستغرقُ وقتًا طويلًا، فضلًا عن أن سِعرَهُ رمزيٌّ ولا يكلّف الكثير، لكن عندما تنفدُ المَقاعدُ الشّاغرة يضطرّ الركاب إلى الوقوف. كما يتوقّف سائقُ القِطارُ عدّة مرّات عندما تقابله الإشارة الحمراء للتوقف، حيث قد يستغرق الأمر حوالي نصف الساعة في بعض الأماكن، في انتظار حركة قطارات أخرى تكون قد تقدمت عنه، أو قد يكتفي السائق بتخفيض السرعة بشكل كبير أحيانا، خصوصا عند الاقتراب من مناطق عمرانية أو من إحدى المحطات. ويمثّل الضّجيج أحد العوامل التي تُنغّص على المُسافرين الرحلة على متن القطار المذكور. ورغم طبيعة النظام المحرك للقطار التي تصدر الضجيج، إلا أن المشكلة في صوت الاحتكاك الناجم عن الأشرطة التي تربط بين المقطورات، فالأرضية المعدنية تَهتزّ عند كلّ منعرج أو نقطة التقاء بين أجزاء السكة الحديدية، ما يجعل الرّاكب يشعر بأنها تقارب على الانفصال في كل مرة. وأخبرنا بعض الركاب بأنّهم تعودوا على هذه الأصوات من كثرة استعمالهم لقطار البحر خلال فصل الصيف، فيما كان القطار يتمايل ويهتز أحيانا. الأسعار الرمزية وقرب البحر من محطة سكيكدة يجذبان المواطنين خلال الرحلة، تبادلنا أطراف الحديث مع أفراد بعض العائلات المسافرة معنا، فأخبرونا بأنهم يقبلون على ركوب القطار الرابط بين قسنطينةوسكيكدة، بفضل أسعاره الرمزية وإمكانية التنقل إلى شاطئ البحر من محطة القطار بسكيكدة مشيًا على الأقدام، أو بركوب الحافلات فقط. وأوضحت لنا سيّدة كانت رفقة أبنائها الصغار، بأنها تستعمل القطار المذكور كلّ صيف، لنقل أطفالها إلى البحر، لأن مساره واضح ولا يُكلّفها الكثير مقارنة بالسيارة، مضيفة بأن القطار أكثر أمنا لأن فيه عائلات أخرى، فضلا عن أن خطر التعرض لحوادث المرور ضئيل جدا، مقارنة بما يتربّص بالمسافر في سيّارات الأجرة أو الحافلات، التي تكلّف مبالغ ماليّة أكبر. حَلَلْنَا بمدينة سكيكدة حوالي الساعة الثامنة والنصف، فكنّا قد قضينا ما يقارب الساعتين والنّصف في الطّريق، وهو ضِعفُ ما تستغرقُه السيّارة من قسنطينة إلى سكيكدة عندما تسلك الطريق السيّار. نزلنا في المحطة وما إن دلفنا إلى مبنى المحطة حتى قابلنا مراقبون وقفوا على مستوى مدخل ضيق يراقبون تذاكر المسافرين. وقد كان الأعوان بشوشين في تعاملهم مع المسافرين، حيث شاهدنا عددا منهم يساعدون كبار السن والأولياء على رفع الحقائب الثقيلة إلى داخل القطار. السفر طلبا للرّزق.. ورافقَنا في رحلتنا كهلًا يحمل بين يديه قفّة تقليدية مصنوعة من نبات الحلفاء، حيث ما إن انطلق القطار حتى أخذ يتجول بين المقطورات، عارضا البسكويت وحلويات مختلفة على المسافرين، فضلا عن بذور نبات عباد الشمس المحمصة والمستهلكة من طرف فئة واسعة من الجزائريين وتعرف باسم «الزَّرِيعَة». وقد بدا بأن كثيرا من الأطفال متعودون على رؤية هذا البائع المتجول، فما إن يمرّ بالقرب منهم حتى يخبروا أولياءهم بأن بائع الحلويات قد جاء، ويطلبوا منهم أن يقتنوا لهم شيئا من قُفَّتِه. وأخبرنا أحد العاملين بالمكان بأن هذا الكهل متعود على بيع الحلويات بهذه الطريقة للمواطنين، مشيرا إلى أن أشخاصا آخرين يقومون بهذا العمل أيضا، وخصوصا بالقرب من المحطات، التي لا تتوفر بالكثير منها محلات أو أكشاك لبيع الحلوى أو المياه الباردة أو غيرها من المنتجات الاستهلاكية التي قد يحتاج إليها المسافر في أي لحظة. عدنا في المساء إلى محطة سكيكدة للسؤال عن القطار المتوجه إلى قسنطينة، حيث أعلمنا أحد العاملين بالمكان بوجود القطار المتوجه إلى ولاية بسكرة على الساعة الخامسة والنصف، لكنه أكد لنا بأنّ ركوبنا فيه مرهون بموافقة المراقب، لكننا لم نتمكن من اللحاق به في موعده لنجرب حظنا مع المراقب علّه يوافق على ركوبنا ونزولنا في قسنطينة. وقد نصحنا العامل بالمكان بأن نعود إلى قسنطينة بالحافلة لأن ذلك «أريح وأسرع»، بحسبه، مشيرا إلى أن قطار قسنطينة ينطلق على الساعة السادسة وعشرين دقيقة مساء، ولا يصل إلى قسنطينة قبل التاسعة ليلا. في السّاعة السّادسة تماما كنا في المحطة، اقتنينا التذاكر وتوجهنا إلى القطار، الذي كان يحمل عددا أكبر من المسافرين مقارنة بالفترة الصباحية، كما كان يبدو بأنّ التعب نال من الكثير منهم، خصوصا الأطفال، فضلا عن أن بشرتهم قد اكتست باللّون الأحمر نتيجة التهابها تحت أشعة شمس الشاطئ اللافحة. وقد نام بعض الأطفال على الأرض من التعب، حيث أخبرنا والد أحد الأطفال بأن ابنه تعب كثيرا من اللهو بالشاطئ طيلة اليوم. «أطفال الحجارة» يودّعون المصطافين تعدّ آثار الرشق بالحجارة على الهيكل المعدني للقطار وزجاج النوافذ، أول مشهد يستقبل المواطنين عند دخول المحطة، كما أنّها من أكبر هواجس أعوان الأمن والعمال والمسافرين على حد سواء، فما إن «وثبنا» لنتمكن من صعود سلالم القطار العالية مقارنة بمستوى رصيف محطة سكيكدة واتّخذنا مقعدا، حتى تقدم منا الأعوان وأخبرنا بضرورة إغلاق النافذة المحاذية لمكاننا، لكي لا نصاب بضربات الحجارة. وقد سألنا العون عمّا إذا كان الزجاج غير قابل للكسر، فأخبرنا بأنه مصنوع بمادة تتحمل الرشق بالحجارة، لكنها ليست مضمونة مائة بالمائة. وارتسمت ملامح الارتباك على وجه مسافر بالقرب منا، فقد تخوف من أن يصاب ابنه الصغير بالرشق بالحجارة، في حين أوضح لنا بأن الحجر الذي رُمِيَ باتجاه القطار خلال رحلة الذهاب، قد اصطدم بالنافذة القريبة منه. وكان المسافرون الآخرون ينهون الأطفال عن الوقوف أو تقريب رؤوسهم من النوافذ المغلقة، رغم الحرّ الشّديد داخل المقطورات، لحمايتهم من عمليات الرّشق. انطلق القطار وبعد أن مرّ بنفق وسار قليلا في خط مستقيم اقتربنا من أحد التجمعات السكنية، حتى تصاعدت أصوات الرشق بالحجارة من كل جانب، فهلع المسافرون واضطروا إلى خفضِ رؤوسهم خوفا من إصابتهم، فيما صرخت بعض النّسوة والأطفال. ولاحظنا من النافذة مجموعةً من الأطفال يرشُقون القطار وهم «سعداء»، لكنّ شابّيْن في إحدى القُرى قاما بمطاردتهم وثَنَيَاهُمْ عن سلوكهم السّيئ. وعبّر أحد الركاب عن الأمر بالقول «وكأننا في حرب !»، في حين أبدى آخر استغرابه حيث قال «كنت أسافر في القطار نحو البحر قبل عشرين سنة مع والدي وكنا نتعرض للرشق، وأستغرب كيف لم تتغير الأمور إلى اليوم طيلة هذه المدة». وقال راكب آخر «إنه سلوك قديم جدا وأظن بأنه يتم توريثه إلى كل جيل جديد». وتكرّر الرشق بالحجارة على طول السكة الحديدية في العديد من التجمعات السكنية، حيث قال أحد الكهول الذين كانوا معنا على متن الرحلة، إن هؤلاء الأطفال يعيشون في قرى صغيرة لا توجد فيها أية فضاءات أو مرافق للتسلية، ما يجعل من مرور القطار الحدث الوحيد طيلة الأيام الصيفية الطويلة والمضجرة فيقومون برميه بالحجارة. وما إن أتم المعني كلامه حتى انهالت الحجارة مجددا من كل جانب، وقد أصابت واحدة منها زجاج النافذة المجاورة لنا تماما وأدت إلى وقوع تشقق صغير فيه، فيما كان أعوان الأمن يمرون في كل مرة للاطمئنان على المسافرين والتأكد من أنهم لم يتعرضوا للأذى. اصطدام الأغصان بالعربات يثير خوف المسافرين توقف الرّشق بالحِجارة عندما توغّل القطار بشكل أكبر بين القرى والبلديات الواقعة على مساره، لكننا لاحظنا في أكثر من مرة عند الذهاب والإياب، اصطدامه بأغصان الأشجار النّامية على ضفتي سِكّته. وقد كان ينجم عن اصطدام بعض الأغصان الكبيرة بالقطار ضجيج كبيرٌ في بعض النّقاط، ما يهدد بتحطيم النوافذ أحيانا، في حين كان المسافرون يشعرون بالخوف في كل مرة تُسَجَّلُ فيها المشكلة لأنهم كانوا يظنون بأنها ناجمة عن الرشق بالحجارة، فيَخفِضُونَ رؤوسهم ويبعدونها عن النّوافذ. ولاحظنا في مسار السكّة، مجموعات من الشباب التجأت إلى أماكن قريبة من المحطات الواقعة بعدة بلديات، من أجل شرب الجعّة بعيدا عن أنظار غيرهم من السكّان والمواطنين، لكن لم تبد منهم أية سلوكيات عدوانية تجاه القطار عند مروره بالقرب منهم، فضلا عن أن كثيرا لم يلتفتوا حتى إليهم، وكانوا مُنكَفِئين على طاولات الدومينو أو الورق. واصل القطار طريقه وقد بدأ الظلام يعمّ السّماء خارج المقطورة، حيث وصلنا إلى محطة باب القنطرة على الساعة التاسعة مساء وقد نال منا التعب، فيما أخبرنا الأعوان بأن المحطة النهائية للرحلة تكون على مستوى حي سيدي مبروك السفلي لكننا فضلنا النزول على مستوى باب القنطرة تتبّعًا للعدد الكبير من المواطنين الذين غادروا. وقد لاحظنا عددا لا بأس به من سيارات الأجرة مركونة أمام المحطة رغم أن الوقت كان ليلا، حيث أوضح لنا أحد الناقلين بأنهم يعلمون بأنه موعد قدوم المصطافين على متن القطار، لذلك يقصدون المكان للظّفر بالركاب إلى وجهات مختلفة. مسار يكشف عن غياب التنمية في القرى وخِلافًا للرحلة في السيارة بين قسنطينةوسكيكدة، فإن القطار يتيح للمسافر رؤية الكثير من المناطق المخفية خلف القرى، على غرار الأراضي الفلاحية، التي زرعها أصحابها بمختلف الفواكه والخضر والحبوب، مثل القمح والخَوْخِ والتّين، كما تظهرُ البِنَاءَاتُ الفوضوية وبعض الأكواخ القصديرية من جِهتها الخلفية، وأكوام من الرّدوم ومخلّفات البناء والنقاط العشوائيّة لرمي القمامة في كثير من القرى، حيث يكشفُ مسارُ سكّة الحديد عن مدى افتقار الكثير من المناطق الواقعة خارج التجمعات السكنية بالبلديات الكبيرة للتنمية. من جهة أخرى، لاحظنا في الطريق كميات كبيرة من مخلفات السكك الحديدية، كالأخشاب وأجزاء معدنية مستعملة في إنجاز السكة مرمية في الحيز التابع للشركة الوطنية للنقل بالسكك الحديدية، حتى أن بعضا منها كُدِّسَتْ في فضاءٍ مستوي، يكون مستعملا لممارسة كرة القدم من طرف الشباب، لأنهم قاموا بوضع أعمدة معدنية على جهتيه كمَرْمَيَيْن للكُرة. لكنّ القطار يكشف أيضا عن مناظر طبيعية خلابة، بالمناطق الجبلية أو الغابات، لكنها ليست مستغلة سياحيا، رغم أنها ذات إمكانيات كبيرة ويمكن أن تذرّ على القاطنين في تلك المناطق أموالا كبيرة، بحسب ما يراه بعض المواطنين الذين تبادلنا معهم أطراف الحديث خلال الرّحلة.