شكلت قبل أيام، قصة تمثال البطل الشهيد زيغود يوسف، لصاحبه الفنان أحمد بن يحيى، موضوع نقاش حول التاريخ و الفن بجامعة ييل الأميركية، حيث أشير إلى أن العمل الذي تقاذفته أمواج التاريخ و السياسة منذ ولادته، فجر كل مشاعر التحرر و الانعتاق من بوتقة العنف الكولونيالي المجسدة صوره في الكثير من إنجازات الفنان، المعاد تشكيلها من نصب كولونيالية قديمة تتقاطع تقاسيمها مجتمعة في شق الرمزية. بين الدلالات الثقافية و التاريخية لتمثال «الديك الغالي» رمز النصر الفرنسي، و تمثال البطل زيغود يوسف الذي نحت من أجنحته، ينصهر التاريخ داخل قوالب يشكلها الفنان أحمد بن يحيى، من منطلق نضج عاطفي وعقلاني و إدراك عميق لأهمية التراث الفني الكولونيالي بالنسبة لذاكرة الجزائريين، كدليل مادي و معنوي على الاستغلال و العنف اللذين تعرضوا لهما. التراث المتشابك نوع آخر من التأريخ المحاضرة حملت عنوان « أحمد بن يحيى فنان مصدر تمثال سياسي جزائري»، و جاءت بالتنسيق مع مجلس دراسات الشرق الأوسط و قدمتها البروفيسور سوزان سليموفيتش، أستاذة الأنثروبولوجيا و لغات و ثقافات الشرق الأدنى بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلس، و تعد المداخلة فصلا من مخطوط كتابها الجديد، الذي يتناول مصير النصب التذكارية الفرنسية الكولونيالية الحربية في الجزائر و فرنسا، وعليه فقد تطرقت الباحثة بإسهاب إلى العلاقة الرمزية بين الإرث النحتي الاستعماري في الجزائر وبين طريقة التعامل معه بعد الاستقلال، مستشهدة في ذلك بقصة تمثال زيغود يوسف، التي تتجاوز قضية الملكية القانونية المادية إلى نوع آخر من التأريخ، فالتمثال، حسبها، سكب من قالب قديم جديد، لأنه نتاج لإعادة تشكيل أحد أشهر النصب الكولونيالية التي كانت موجودة بقسنطينة، و تحديدا بساحة «لا بريش» إبان الاستعمار، و يتعلق الأمر بتمثال « الديك الغالي الفرنسي» رمز الانتصار، حيث جاء في المحاضرة بأن العمل المبتكر للفنان أحمد بن يحيى، صاحب المنحوتة، ينطوي على عدة بيوغرافيات لفنانين غيره، إضافة إلى عناصر تراثية متشابكة هي امتداد لحركة عالمية تصور جمالية تشييد النصب التذكارية التي تمجد الأوطان والأمم، كما أشير أيضا، إلى أن شخصية صاحب التمثال البطل زيغود يوسف مهمة جدا، فقد انتمى إلى أهم المنظمات السرية و شارك في المؤتمرات المصيرية و فجر الثورة في الولاية الثانية، كقائد للشمال القسنطيني، و أطلق عليه اسم رجل 20 أوت 1955، لشنه مواجهة عسكرية تعتبر منعرجا مبكرا ومصيريا في تاريخ الثورة، كونها مهدت للظفر بمساندة الشعب، إضافة إلى أن هجوم زيغود على المستعمر تسبب في رد فعل انتقامي إجرامي فظيع للجيش الفرنسي وعقاب جماعي استهدف الجزائريين المسلمين، وهو ما يعني، حسب صاحبة المداخلة، أن التمثال مثقل بالحقائق والقصص التاريخية .تضمنت المحاضرة عرض عدد من الصور، بينها صورة من أرشيف جريدة النصر، كما قدم خلالها جانب من تصريحات أدلى بها الفنان أحمد بن يحيى خلال مقابلة أجرتها معه المؤرخة ناتاليا فينيس، والمخرج وليد بن خالد، رفقة فريق باحثين من جامعة بورتسموث، وذلك سنة 2019، تزامنا مع الإعداد لسلسلة وثائقية عن جيل ما بعد الاستقلال، تحدث خلالها الفنان عن الرحلة المثيرة لتمثاله و التي قد تكون، حسب تعليقه، أهم من التمثال نفسه، لأنها عرفت محطات خلفتها تجاذبات سياسية و تاريخية، ميزت تلك المرحلة و ما بعدها، و أدخلت النصب إلى المقبرة التي خرج منها قبل أشهر فقط من السنة الجارية. تماثيل الاستقلال بين الرمزية وأزمة الثقة أشير في المحاضرة، إلى أن التركيز على منحوتة بن يحيى، مبني على مصدرها، وذلك لأن المصدر مهم جدا في فهم مرحلة ما بعد الاستقلال، بوصفها من أهم محطات الذاكرة الحية للجزائريين، فالفنان كان مثلا، قد انتقد تمثال الأمير عبد القادر الذي يعد من أوائل الأعمال النحتية التي ميزت الاستقلال، والسبب هو أنه عمل مستورد نحته فنان إيطالي قدم في رأي بن يحيى، عملا ضعيفا يفتقر للتوازن و للأبعاد المقنعة، لأن صانعه يجهل شخصية صاحبه. و هنا ذكر في المحاضرة، نقلا عن تصريحات للفنان، بأن المنحوتة هي نتاج لعدم ثقة السلطة الحاكمة آنذاك في الجيل الصاعد من الشباب الموهوبين، لذلك فقد حاول هو العمل بدقة على تمثال زيغود يوسف لرمزيته العالية، فتنقل إلى مسقط رأس الشهيد و التقى بشقيقته و أرملته و بعض رفقائه في الكفاح، ليجمع في مخيلته صورة دقيقة و كاملة عن البطل و عن ملامحه و شخصيته، نظرا لكون التمثال تجسيدا حقيقيا لانصهار التاريخ، سواء من حيث تصميمه و مصدره أو من منطلق السيرة الذاتية للفنان كنحات، ينتمي إلى الرعيل الأول من الفنانين الذين درسوا في مدرسة مستقلة للفنون الجميلة بالجزائر. كان بن يحيى، كما جاء في المداخلة، تلميذا لمحمد إسياخم، قبل انتقاله إلى مدرسة الفنون الجميلة في باريس كمتدرب في ورشة سيزر بالداتشيني، فتمحورت اهتماماته الفنية حول الواقعية الجديدة والعدالة الاجتماعية و المحافظة والتراث، وهو مصمم ثالث طابع بريدي أصدرته الدولة بعد طابعي الفنانين علي خوجة و شكري مسلي، وهنا قالت البروفيسور سوزان سليموفيتش، بأن هذه المادة أعمال فنية مبهرة بدورها و تستحق مشاريع بحث منفصلة. المحاضرة التي دامت قرابة ساعة كاملة، قدمت سردا لمسار الفنان أحمد بن يحيى و رحلة تمثاله، إضافة إلى كثير من التفاصيل التاريخية للجزائر إبان الاستعمار و بعده، خصوصا و أن الفنان قدم إلى جانب منحوتة زيغود يوسف، نصبا آخر وذلك سنة 1972، و هو نصب وضع في وسط مدينة قالمة، تخليدا لذكرى مجازر الثامن ماي 1945. الأمر الذي عرج بالباحثة للحديث عن جانب من تاريخ هذه الأحداث التي وصفتها بالدموية و بالعملية الانتقامية الإجرامية، موضحة بأن فرنسا لم تقبل توظيف مصطلح «مجازر»، لوصف ما حدث في ذلك اليوم، إلا بعد ما يقارب ستين سنة من وقوعها، وهو ما يؤكد، حسبها، أهمية التراث النحتي في التأريخ للذاكرة، فتمثال زيغود المسكوب من قالب الجبس السلبي، هو صورة عن ويلات الحرب و البطولة، كما أنه مثال حي عن التجاذبات السياسية التي عرفتها الجزائر بعد الاستقلال، بدليل أنه أنجز بداية ليزين ساحة البلدية التي تحمل اسمه، لكن قادة جبهة التحرير الوطني وجدوا لاحقا بأن قرية زيغود يوسف صغيرة جدا، لتضم قيمته ورمزيته، فتقرر في أوت 1969 تزامنا مع الذكرى 14 لهجومات الشمال القسنطيني و الذكرى السابعة للاسترجاع السيادة الوطنية، نصب التمثال في المقر العام للأفلان بقسنطينة، وذلك خلال احتفال بهيج شارك فيه وفد عسكري بالزي الرسمي، إلى جانب رفقاء البطل في الجهاد الشيخ بولعراس و صالح صوت العرب و لخضر بن طوبال، و هي احتفالية حضرها قرابة 10 آلاف شخص، قبل أن تتم إزالة النصب و يختفي من الساحات العمومية لسنوات. النصب وحضور الذاكرة الاستعمارية في الفضاء العام حسب الأستاذة المحاضرة، فإن اعتماد الفنان صاحب الخامسة و العشرين عاما آنذاك، على النصب الحربية الموجودة بقسنطينة، لتشكيل تحفته الفنية، هو تعبير عن تصوره لدور الإرث الفني في تبيان حضور الذاكرة الاستعمارية في الفضاء العام، حيث تبرز أهمية المصدر هنا، في التاريخ المتحول للديك الغالي « النصب الأصلي»، الذي استورد من فرنسا إلى الجزائر، ليخلد ذكرى الحربين العالميتين، و الذي أعاد بن يحيى صهره و تشكيله ليخلد ذكرى البطولة و الاستشهاد و ليرمز للاستقلال و السيادة، فالفنان الذي أراد تنصيب التمثال في نفس مكان الديك، قتل النصب الأصلي ليعيد إحياءه مجددا، فيما يعكس عملية انصهار تاريخي، مع تبيان القدرة على هدم الممارسات الاستعمارية و مخلفاتها، مقابل الحفاظ على الفكرة الفنية حية.تعود المحاضرة أيضا، إلى قصة التمثال و كيف أنه أزيح من الفضاء العمومي لاحقا بحجة معاداة الجهوية، كما برر الرئيس هواري بومدين الأمر للفنان، غداة لقائهما سنة 1975 بالأكاديمية العسكرية بشرشال، فحسبه، يعد تخصيص تمثال لزيغود يوسف وقوع في الفخ الجهوي و القبلية الجهوية، ولهذا تمت إزالة النصب ولم يره صاحبه إلا سنة1986، بسبب الحظر الذي طال تماثيل أبطال المناطق الجهوية في الأماكن العمومية آنذاك، و استمر خلال فترة حكم الشاذلي بن جديد، قبل أن يتقرر لاحقا نصب التمثال في مقبرة الشهداء بقسنطينة، و أخرج منها سنة 2021 مجددا، عقب مساعي عائلة الشهيد لأجل وضعه في الساحة الرئيسية للبلدية الحاملة لاسمه، و هو ما تم فعلا في 18 فيفري من ذات السنة. وعن النصب الذي يعوض حاليا، تمثال زيغود سابقا، في ساحة لابريش و يتمثل في المنصة القديمة التي ثبت عليها عند تدشينه، فقد أوضحت الباحثة بأنه « ثقب إيجابي»، ماديا ومعنويا، لأنه نصب منبثق عن مفهوم حركة« الأممية الموقفية» التي تعبر عن استرجاع الفضاء المحتل من طرف العدو و التجسيد المادي للحرية، فتحطيم التمثال الكولونيالي أو إزالته من الفضاء العام، يصنع، كما فسرت، حالة جديدة تعرف بالتفريغ عن طريق القوة الإيجابية و هو عمل تحرري يعكسه سعي بن يحيى لاستغلال أجزاء الديك الغالي لصناعة تمثال البطل. البروفيسور سوزان سليموفيتش، ذكرت كذلك، بأن الفنان كانت له مواقف عديدة يتعلق أغلبها بالمحافظة على التراث الفني و إعادة توظيفه ليحاكي الواقع التحرري ويحفظ الذاكرة، فقد كان ضد إرجاع تمثال « نصب الأموات إلى فرنسا»، نزولا عند مطلب جمعية الأقدام السوداء بمرسيليا، وذلك على اعتبار أن النصب تراث جزائري، و دليل قاطع على أن فرنسا ضحت بجزائريين في حربها الخاصة، كما لعب الفنان و رئيس جمعية الدفاع عن تراث قسنطينة ، دورا محوريا في ترميم النصب خلال الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى. إعادة تشكيل الذاكرة النحتية دافع للتحرر العاطفي يعتبر تمثال زيغود يوسف، حسب المحاضرة، وريث القوة الجمالية لأشكال فنية نحتية ثلاثية الأبعاد، بغض النظر عن مصادرها وعلاقتها بصناعة النصب التذكارية الفرنسية، بما في ذلك نصب الديكة التي يقدر عددها تقريبا ب 36 ألفا، موزعة على الأراضي الفرنسية وأراضي مستعمراتها، والتي يذكر من بينها نصب قسنطينة الذي دشن سنة 1922 وأسقط وهشم بعد الاستقلال، و تحديدا خلال الأحداث التي رافقت الصراع الداخلي بين جيش الحدود و مجاهدي الولاية الثانية. تاريخيا، ذكرت الباحثة، بأن مفهوم انصهار التاريخ يشمل الحديث عن وجود امتدادات بين المستعمر و مستعمريه السابقين، و قدمت صورا عن تماثيل أخرى، قالت بأنها تعبر عن هذا الطرح ، مشيرة إلى أن النصب التذكارية بعد الاستقلال غطيت بالأعلام الوطنية أو هشمت في ما يشبه إعادة استرجاع عنيف للفضاء العمومي، وهي فكرة أوضحت بأن فرانتز فانون طرحها سابقا وتتعلق، حسبها، بالمخلفات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية العنيفة ، و التي تصنف كقوة تحفيزية تحررية عاطفية، فالتعامل العنيف مع التماثيل، في رأيها، هو امتداد لعنف الممارسات الاستعمارية و الحرب عموما، و تحطيمها و تغطيتها و إعادة تشكيلها نوع من التصريح باسترجاع السيادة على الفضاء العمومي، الذي ينصب فيه المستعمر عادة، تماثيل النصر وغيرها، تعبيرا عن فرض سيطرته. و قالت المحاضرة ، بأن ثاني أهم مشروع للفنان يأتي كرد قوي على التقرير الأخير لبنيامين ستورا، الذي غيب تاريخ الذاكرة و تحاشى ذكر جانب التعذيب الذي تعرض له الجزائريون، حيث يتعلق الأمر بمشروع طويل المدى يخص تحويل السجن الكولنيالي بقسنطينة « سجن بالكدية»، إلى متحف للذاكرة والجرائم ضد الإنسانية. و يضم المشروع الطموح، حسبها، كما يصوره خيال الفنان، مجموعة من البنايات الكولونيالية و عددا من تماثيل الجنرالات التي يأمل في استرجاعها، إضافة إلى أعمال فنية كولونيالية، مثل لوحة المجاعة لغوستاف غيومي، الموجودة بمتحف سيرتا، بالإضافة إلى نسخ من لوحة هوراس فيرني. قدمت خلال المحاضرة أيضا، عرض صور لعدد من أعمال و منحوتات الفنان، التقطها ابنه خلال معرضه المقام سنة 2015، و هي جلها أعمال ولوحات تتعلق بتاريخ المساجين الجزائريين إبان الاستعمار، بمن فيهم ضحايا مقصلة «مونلوك» بليون الفرنسية، بالإضافة إلى لوحته «الإنسانية ممتنة للمحررين» التي أعاد من خلالها تقديم لوحة قوس النصر « الأمة ممتنة»، و قدمت عنها قراءة تستند إلى نظرية مايكل روثبورغ، القائلة بأن « الذاكرات التاريخية الصادمة والمختلفة تتشابك و تغذي بعضها البعض، والتقاءها وتصادمها ينتجان مزيدا من الذاكرة وليس أقل».