يعد حسن حنفي أحد وجوه الفكر العربية المعاصرة التي كان لها حضور مستمر في ساحة الفكر الفلسفي؛ ولكن الموضوع الذي شغل باله كثيرا هو موضوع تجديد التراث، الذي اعتبره قضية موقف من التراث القديم، وموقف من التراث الغربي خاصة، وموقف من الواقع من زاوية أخرى .فقد عمل في مشروعه هذا على تخليص العرب من تقليد القدماء، والتبعية للغرب والعزلة عن الواقع. وسعى حنفي بكل ما أوتي من جهد وقوة إلى التوفيق بين التراث والتجديد، وهذا ما يظهر في عناوين كتبه؛ وفي خضم هذا المشروع يلتقي بالعلمانية داخل فرنسا التي تابع فيها دراسته الأكاديمية بجامعة السوربون عام 1966. وهنا يبرز في الأفق مفكرنا متأثرا على نحو مباشر، أو غير مباشر، بالثقافة الغربية التي كان التيار العقلي فيها هو الغالب بلا منازع كما يقول عنه فؤاد زكريا. فمقولة العلمانية قد حدث حولها جدال كبير بين مؤيد ومعارض وفي حالة مفكرنا حسن حنفي فإن مقاربته في العلمانية نجدها داخل ما أصبح يسمى ب»نظرية اليسار الإسلامي»-بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة – التي عرفناها عند عبد الوهاب المسيري، ففي سنة 1981 أصدر حسن حنفي مجلّة تحمل اسم «اليسار الإسلامي» وفيها شرح «عقيدة» هذا «اليسار الإسلامي» وأهدافه، معلنا أنّه إنّما يرمي إلى يقظة الأمة واستئناف نهضتها الحديثة وطرح البدائل أمام الناس والاحتكام إلى جماهير الأمة وتجاوز الحلول الجزئيّة والنظرات الفردية إلى تصورّ كلي وشامل لوضع الأمة في التاريخ، وذلك للأسباب التالية: (1) النموذج الإسلامي قائم على العلمانية بمعنى غياب الكهنوت. (2) الأحكام الشرعية الخمسة حسبه تعبر عن مستويات الفعل الإنساني الطبيعي، وتصف أفعال الإنسان الطبيعية. (3) الفكر الإنساني العلماني الذي حول بؤرة الوجود من الإله إلى الإنسان وجد متخفٍ في تراثنا القديم عقلاً خالصًا في علوم الحكمة، وتجربة ذوقية في علوم التصوف. وتبعا لذلك لا حاجة لنا بالنموذج العلماني الغربي بقدر ما نحن أحوج بنموذج والاكتفاء هو المنطق الذي يجب أن نتبناه، لذلك سعى بمنهجه التاريخي لإعادة النظر في الإسلام من الداخل، وطريق ذلك يكون من خلال نقد العقل العربي بعقلانية حداثية. فهو القائل: «علينا أن نقرأ العقيدة من واقع مجتمعنا، فيتحول علم أصول الدين من الحجة النقلية إلى التحليل الواقعي، ثم يصب في التحليل الاجتماعي للأمة» لكن هذا التمسك بالإسلام لا يعني بأي حال من الأحوال أن ننفي الحداثة عن فكر حنفي. فهو توفيقي بشكل من الأشكال، وداعية للتوافق بين الحداثة والأصالة، انطلاقًا من اشتغال وتأويل اكتفائي، أو وفاقي. ومع ذلك تظل نظرة حنفي تاريخية، وكأنه يرغب في ضخ الحرية والمساواة والعدالة باعتبارهم مقولات تتأسس عليها العلمانية بحقنة تفعل فيها من الداخل، لأن العرب في نظره ضحايا مركزية أوروبية يلزم رفضها، لا تفكيكها.فالمفكر المصري كان يبتغي في مشروعه التأثير في التاريخ والواقع بحركة مزدوجة تتمثل في منح الفكر صفة سياسية بعيدة أو قريبة. فمشروع حنفي يبدوا وكأنه يقف أمام بعض المشاريع التي حاولت رسم أسس النهضة العربية؛ خاصة منها الداعية للأخذ بالنموذج الغربي وإقصاء الدين عن الحياة السياسية في صورة أنصار التيار العلماني الليبرالي الذي أسسه شبلي الشميل وسلامة موسي. فالمتأمل لنصوص حنفي يراه يتبنى خيار العلمانية الجزئية وليس الشاملة على حد عبارة المسيري؛ لكنه يركز على طابعها الروحي، فحسبه الوحي بالأساس علماني والإسلام دين، فالقرآن يؤمن بالديانات الأخرى ويدعو إلى التسامح معها ولا يكره الناس على تغيير عقائدهم بل انه يدعوك إلى تجاوزه بتدبره وقراءته وتأويله وتحقيق مناطه. فقد أعلن صراحة في كتابه «التراث والتجديد موقفنا من التراث القديم» عن موقفه من العلمانية:»إن قيل إن التراث والتجديد سيؤدي حتما إلى حركة علمانية وفي العلمانية قضاء على تراثنا القديم وموروثاتنا الروحية وآثارنا الدينية. قيل: قد نشأت العلمانية في الغرب استجابة لدعوى طبيعية تقوم على أساس رفض الصور الخارجية وقسمة الحياة إلى قسمين واستغلال المؤسسات الدينية للجماهير وتواطؤها مع السلطة وحفاظها على الأنظمة القائمة. نشأت العلمانية استردادا للإنسان لحريته في السلوك والتعبير وحريته في الفهم والإدراك ورفضه لكل أشكال الوصايا عليه ولأي سلطة فوقه إلا من سلطة العقل والضمير. العلمانية إذن رجوع إلى المضمون دون الشكل والى الجوهر دون العرض والى الصدق دون النفاق والى وحدة الإنسان دون ازدواجيته والى الإنسان دون غيره. العلمانية إذن أساس الوحي فالوحي علماني في جوهره والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ، تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور. وما شأننا بالكهنوت والعلمانية ما هي إلا رفض له؟ العلمانية في تراثنا وواقعنا هي الأساس واتهامها باللادينية تبعية لفكر غريب وتراث مغاير وحضارة أخرى» زد على ذلك نجده يصر على تحويل تجربة الشورى الشعبية إلى تجربة ديمقراطية حقيقية بالمعنى السياسي والاجتماعي وهنا يلتقي مع أنصار العلمانية الذين يعتبرون الديمقراطية المخرج الأساسي من وحل الاستبداد. وقد بحث حنفي في الجذور التاريخية الجاثمة في وجدان الجماهير والتي عطلت عملية الانتقال إلى الباريديغم الديمقراطي ومنعت الناس من المطالبة بالتمتع بنعمة الحرية والعدالة، أضف إلى ذلك أنه لا يرى وجود تعارض بين الإسلام والديمقراطية بل يدعو الإسلاميين إلى تبني النهج الديمقراطي وقبول فكرة التعددية ويحثهم على نبذ العنف والاعتراف بالآخر والاهتمام بالمعاملات والاجتماعيات وترك مسألة العبادات والغيبيات. يقول حنفي في هذا الأمر:»اليسار الإسلامي عبارة عن حركة تاريخية جماهيرية ثقافية حضارية اجتماعية وسياسية وثقافتنا ترتكز على ثلاثة أصول: أولا التراث القديم، ثانيا التراث الغربي، ثالثا القرآن الكريم». عندئذ يقر حنفي أن ما يقوم به هو مجرد محاولات ولا يدعي أنه صاحب نظرية علمية أو رسالة إيديولوجية، فمنهجه تأصيلي رغم أنه يذكر المنهج الأصولي ويرى أنه لا تقدم للعرب دون ثورة مفاهيمية إذ يصرح حول هذا الأمر:» هذه إذن محاولات أقوم بها لإعادة إحياء التراث القديم للدخول في مشاكل العصر لأتمكن من تقديم البديل الإسلامي الثوري المستنير الذي يستطيع أن يحرس المسلمين من التيارات الرجعية أومن التيارات العلمانية الحديثة». وتبعا لهذا نجد مشروع حسن حنفي يتجه لإعطاء بعد روحي قيمي للعلمانية ، انطلاقا من جعل الإنسان محور عملية التحضر. فقد سار بفكره نحو علمنة العقل الإسلامي بعدما كبلته معطيات الماضي التي وجهت وجدانه واتجه به لإنتاج عقل بإمكانه مساءلة الفضاء الاجتماعي والسياسي. فعد بحق من رواد النزعة التجديدية العربية إضافة لمحمد أركون ومحمد عابد الجابري . فقد أعلن بصوت مرتفع موقفه بالتحديد من العلمانية : « إن الإسلام دين علماني في جوهره، لا حاجة له لعلمانية مستمدة من الحضارة الغربية» ومبرره في ذلك أن الحاجة إلى الفهم تتأسس عل ضوء القراءة التاريخية للمسار الحضاري الذي ابتعد فيه المسلم عن الريادة واكتفاءه بدور المتفرج متجاهلا كونه كائن عاقل ومفكر فحسبه: « إن تخلفنا عن الآخر هو الذي حول الإسلام إلى كهنوت وسلطة دينية ومراسم وشعائر وطقوس وعقوبات وحدود، حتى زهق الناس واتجهوا نحو العلمانية الغربية بما تمثله من عقلانية وحرية وديمقراطية وتقدم» يبدوا جليا أن حنفي قد تجاوز الفهم الغربي للعلمانية الذي يؤسس لرفع السحر عن العالم بلغة ماكس فيبر ومارسيل غوشيه؛ حيث نجده يعاكس الأمر ويجعل الدين الإسلامي حامل بقيمه لمقولات العلمانية إذ يقول حنفي في كتابه اليمين واليسار في الفكر الديني : «...حتى لا نظن أن الفكر الديني شيء مقدس، بل هو نتاج أنساني مثل الايديولوجيات التي تنبع من واقع اجتماعي ثم تعود لتؤثر فيه من جديد» ومن جهة أخرى يدعو لإعلاء الحس العقلي على النقلي، حيث يؤكد في كتابه «التراث والتجديد» رفضه لسيطرة النص على الواقع الحسي، فهو المفكر اليساري الذي يقول بأسبقية الواقع على الفكر أو ما اصطلح عليه بأسبقية البناء التحتي المادي على المثاليات والنظريات، وهو ما جعله يشهد بهذا الاعتراف المثير « إن ما عبر عنه القدماء باسم أسباب النزول لهو في الحقيقة أسبقية الواقع على الفكر، كما أن ما عبر عنه القدماء باسم الناسخ والمنسوخ ليدل على أن الفكر يتحدد طبقًا له، إن تراخى الواقع تراخى الفكر وإن اشتد الواقع اشتد الفكر» وهذه رؤية دقيقة للتراث بلا شك يحاكم فيها التاريخ وفقا لظروفه وبالتالي فالعقل هو الحاكم والمهيمن. فالعلمانية عنده «رجوع إلى المضمون دون الشكل وإلى الجوهر دون العرض، وإلى الصدق دون النفاق، وإلى وحدة الإنسان دون ازدواجيته، وإلى الإنسان دون غيره». العلمانية إذن هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور، وما شأننا بالكهنوت، والعلمانية ما هي إلا رفض له ! العلمانية في تراثنا وواقعنا هي الأساس واتهامها باللادينية تبعية لفكر غريب، وتراث مغاير، وحضارة أخرى . وتبعا لما سبق يبدو أن اتجاهه نحو اليسار الإسلامي أو الإسلام الثوري هو منزلة بين السلفيين والعلمانيين. يحاول أن يقلل المسافة بينهما عن طريق إيجاد جذور العلمانية في التراث القديم في الاعتزال وأصوله الخمسة أو مقاصد الشريعة أو الفلسفة، وكذلك إيجاد مبادئ الإسلام في العلمانية الحياة، والعقل، والحقيقة، والكرامة، والثروة الوطنية. وكما وجد القدماء الاتفاق بين الفلسفة والدين يجد المحدثون الاتفاق بين الإسلام والعلمانية أو بين الإسلام والحداثة أو بين الإسلام والعقلانية والتنوير.