طول الانتظار يضاعف معاناتهم و يبدد أملهم في الشفاء امتزجت الكآبة بالقلق على وجوه شاحبة طبعتها النظرات الشاردة و التنهيدات المتتالية و الحركات المستمرة بين وقوف و جلوس، ذهاب و إياب، و كأن مقاعد قاعة الانتظار مصنوعة من أشواك ناخرة للأجساد، هكذا كان مشهد مرضى السرطان و هم يترقبون وصول دورهم سواء للفحص أو لحجز موعد للعلاج الكيميائي أو بالأشعة بمركز الحكيم بن رجب لمكافحة السرطان بالمستشفى الجامعي ابن باديس بقسنطينة، الذي رافقت النصر بعض مرضاه مشقة الانتظار لأكثر من خمس ساعات متتالية برواق البؤس كما يحلو للبعض تسميته. أول ما لفت انتباهنا حال دخولنا إلى مركز مكافحة السرطان، حوالي الساعة التاسعة صباحا، تأخر وصول الأطباء و الممرضين إلى مكان عملهم، و قد لمسنا تزايد حالة الاستياء من مريض إلى آخر مع كل رد بالنفي على سؤال تكرر بدل المرة عشرا في أقل من ربع ساعة"هل وصلت الطبيبة فلانة و الطبيب فلان". و مع استمرار ترّقب وصول الأطباء بدأت علامات التوتر تظهر على أكثر المرضى الذي زاد عددهم عن الثلاثين مريضا بكل رواق من أروقة مصلحتي العلاج الكيميائي و العلاج بالأشعة بالطابقين السفلي و الأرضي و كذا الطابق الأول الذي لم تسع قاعة انتظاره المرضى الذين اضطر بعضهم إلى الجلوس على الدرج و غلبت عليهم علامات التأفف و الاستهجان مثل زملائهم في الطابق السفلي ممن كانوا بانتظار دورهم في الفحص لتحديد موعد حصة علاجهم بالأشعة، حيث تزداد لهفة المنتظرين لرؤية أبواب قاعات الفحص تفتح لتخرج منها إحدى الممرضات لقراءة أسماء المرضى الذين قرب موعد دخولهم قاعة العلاج و التحدث إلى الطبيب بأمل التخفيف عنهم و لو بآمال زائفة مثلما قال عمي محمد (البالغ من العمر 60سنة ) و المصاب بسرطان البنكرياس و الذي لم يمكث مكانه لعشر دقائق متتالية إلا ووقف و تنهد و توّجه نحو مكتب الملفات الطبية للاستفسار عن ملفه الخاص و إذا تمكن الممرضون من إيجاده أم لا. و ما هي إلا لحظات حتى تعالت الأصوات ووقعت ملاسنات بين المريض العجوز و أحد الأعوان الذي انزعج من انتقادات المريض و اتهامه لهم باللامبالاة و عدم تقدير حالتهم الصحية و النفسية. "خافوا ربي راني خرجت من الدار على الثلاثة تاع صباح" استغربنا من رد فعل عمي محمد العدواني، لكن بمجرّد سماع قصته تفهمنا حالته النفسية الصعبة للغاية، بعد ترديده بنبرة يائسة "خافوا ربي راني خرجت من الدار على الثلاثة تاع الصباح" قبل أن يتدخل عدد من المرضى لإبعاده عن مكتب الملفات الطبية و تهدئته خشية من تطوّر الأمور بين المريض و الممرض الذي كان يحاول بصعوبة ضبط أعصابه هو الآخر،لدرجة أنه هدد بعدم تقديم ملفه إلى الطبيب إن هو استمر في شتمه و مضايقته. و انتظرنا لحظات إلى أن استرجع العجوز المستاء هدوءه، و تقدمنا منه لفهم سبب اليأس الذي كان يعانيه، وعرفنا بأنه من ولاية سوق أهراس، و اضطر للخروج على الساعة الثالثة صباحا من أجل الوصول في الموعد، لكنه انتظر إلى غاية الحادية عشرة دون أن يتم تسليم ملفه إلى قاعة الفحص للمرضى المعنيين بالفحص الكيميائي، و غضب من رؤية عدد من المرضى ممن وصلوا بعده،يمرون إلى قاعة الفحص قبله كما قال، و لما سأل الممرضة المكلفة باستدعاء المرضى حسب القائمة المعدة صباح ذلك اليوم، أجابته بأنها لم تستلم بعد ملفه مما اضطره لمحاولة فهم ما يحدث بأرشيف الملفات الطبية الذي سجل اسمه هناك بمجرّد وصوله كما قال. و بدا الإرهاق على وجه عمي محمد الذي لم يتوقف للحظة عن الاستغفار و انتقاد الواقع المر الذي يعانيه مريض السرطان ببلادنا، حيث علّق مستاء"اللي حبوا ربي ما يمرضش في البلاد هاذي" يصمت و يواصل بنبرة اليائس الذي لم يعد يتحمل المزيد من الألم قائلا بأنه كثيرا ما يتمنى أن يعجل الله بأخذ روحه لأنه يئس من الشفاء من هذا المرض الخبيث بعد ما رآه من واقع غير مطمئن في طريقة و ظروف التكفل بمرضى السرطان. و تركنا عمي محمد لنجلس مع سيدة في الخمسين من العمر أثارت هي الأخرى انتباهنا لكثرة حركتها بسبب شدة الألم بذراعها الأيسر الذي كانت تارة ترفعه إلى الأعلى و تارة تبسطه و تارة أخرى تدلكه بقوة. "لا أمل نتشبت به و نحن نخضع لعلاج و نحرم من آخر" المريضة التي طلبت منا الرمز إلى اسمها ب"أم إيهاب" رفضت في البداية التحدث إلينا و اعتذرت بحجة الألم ، لكنها لم تتمالك نفسها و هي ترى عجوز تتوّسل إلى الممرضة من أجل إيجاد ملفها الذي لم يعثر عليه بمكتب الملفات الطبية، حيث نظرت إلينا نظرة حزن و قالت"أي أمل يمكننا التشبث به في مثل هذه الظروف و الذي ينعدم لأدنى شروط التكفل الطبي و النفسي المقبول، قبل أن تسرد علينا معاناتها مع سرطان نادر على مستوى عظم ساعدها الأيسر. و قالت"أم إيهاب" أنها لم تخشى المرض في البداية لكنها يئست بعد زيارتها لمركز مكافحة السرطان بالمستشفى الجامعي ابن باديس، لما رأته من تسيّب و فوضى في احتواء و التكفل بالمرضى (تصمت و تضيف بعد تنهيدة ظننا أن روحها ستصعد معها)"كلما سألت عن شخص ممن كانوا معي في حصص العلاج السابقة، أخبروني بوفاته"(تخنقها الكلمات و تطلب منا رؤية مريض آخر). " الورم حميد، كلفني ساقي" عكس باقي المرضى بدا شاب في ربيعه التاسع عشر جد متفائل حتى و هو يرتكز على عكاز بساق مبتورة، و رفيقه يخبره بأن كل شيء على ما يرام و يمكنه دخول المستشفى من أجل الخضوع لحصة علاج كيميائي جديدة الأسبوع المقبل. و قبل التحدث إلى المريض عرفنا من مرافقه أنه من بلدية حامة بوزيان و أنه هنا لأخذ موعد لمواصلة العلاج الذي كان بدأه قبل ثمانية أشهر مباشرة بعد خضوعه لعملية بتر لساقه اليمنى. و لما تحدثنا إلى المريض شعرنا في الوهلة الأولى أننا نتجاذب أطراف الحديث مع شخص لم يعاني أبدا طيلة حياته، لتمتعه بشجاعة ملفتة و تقبله بصدر رحب و قوة إيمان، ما قدرّه له الله سبحانه و تعالى، حيث قال لنا و هو ينظر لجميع المرضى الذين اكتظ بهم المركز "لست أفضل حال من كل هؤلاء، لكن ماذا يمكنني فعله سوى الصبر في مثل هذه الظروف القاسية"و هنا خانتنا قدرتنا على الكلام لأننا لم نجد من العبارات ما قد يخفف عن شاب أصيب بإعاقة مدى العمر، لكنه بشجاعة قال لنا بأنه مستعد للإجابة عن أي استفسار، قبل أن يبدأ في سرد تجربته مع المرض الذي كلّفه ساقه، حيث أخبرنا بأنه لم يكن يوما يتوقع أن مجرّد دمّل قد يفقده القدرة على السير على قدميه، و أسر لنا كيف أن حبة ظهرت على مستوى قدمه اليمنى منذ خمس سنوات لكنه لم يشعر يوما بألم أو انزعاج منها و هو ما جعله يتهاون و لا يزور أي طبيب جلد أو أعصاب لمعرفة سبب هذا الطفح الغليظ. و ذات يوم قرّر فجأة عيادة طبيب خاص بدافع التخلص من الحبة، فأخبره الطبيب حسبه أن الطفح عادي و لا يستدعي أي عملية جراحية، و هو ما دفعه للاعتماد على عمليات الدلك التقليدية، و ما هي إلا ثمانية أشهر حتى كبر الورم و اشتد الألم، ليجد نفسه بالمستشفى أين أخبره الطبيب بضرورة إخضاعه لعملية بتر الساق قبل أن ينتشر المرض الخبيث لفخذه، و هو اليوم يتابع حصص العلاج الكيميائي ، و كان مبتهجا لأن الطبيب أخبره بتجاوبه للعلاج. و قبل أن نغادر المصلحة سمعت صوتا يناديني فالتفت إلى الخلف و إذا به المريض الشاب يطلب مني تسليط الضوء على حالة التسيّب و الأوساخ التي تشهدها المصلحة و قال" و الله لم أنزعج من العلاج الكيميائي بقدر انزعاجي من الأوساخ التي تملأ المكان بالغرف و المراحيض، *"حيث أصاب باستمرار بحالة غثيان و أتقيأ كلما رأيتها". و تشابهت تعليقات المرضى بخصوص واقع التكفل الطبي و النفسي الذي وصفه الأكثرية بالمزري و غير الباعث على التفاؤل كما قالت المريضة أحلام من ولاية سكيكدة "إذا لم يقتلنا السرطان تقتلنا الأوساخ و الميكروبات و انقطاع العلاج المستمر ". مريم/ب