عايش المجاهد مسعود بن شوري ابن منطقة شناورة إحدى قلاع مهد الثورة التحريرية بالأوراس لحظات تاريخية فارقة رفقة الشهيد الرمز مصطفى بن بولعيد منذ سنة 1947، أبرزها وآخرها لحظة استشهاده في حادثة انفجار جهاز الراديو الملغم، ويرجع المجاهد البالغ من العمر 90 سنة بذاكرته للوراء قبل وإبان الثورة التحريرية بجبال الأوراس خلال لقاء أجرته معه النصر بمسكنه بشناورة ببلدية تكوت جنوب ولاية باتنة، حيث لاتزال ذاكرة المجاهد بعد مرور 69 سنة عن اندلاع الثورة تحفظ تفاصيل حرب التحرير بالأوراس وجرائم ارتكبها المستعمر الفرنسي في حق العزل آنذاك مؤكدا بأنها لن تمحى من ذاكرته مادام على قيد الحياة، على غرار حادثة انتقام العسكر الفرنسي بقتل أربع نساء بينهن حوامل بقريته، ويحفظ المجاهد مسعود بن شوري الذي شارك في جلب السلاح من تونس تعليمات وتوجيهات القائد مصطفى بن بولعيد في بداية التحضير للثورة قبل سنوات بجبل الهارة، أين كان يجتمع بهم. أجرى اللقاء: ياسين عبوبو شناورة أرض المقاومين الخارجين عن القانون والشهيدات الأربع يرتبط ذكر منطقة شناورة ببلدية تكوت بولاية باتنة بمحطات وأحداث من تاريخ الثورة التحريرية المجيدة بمنطقة الأوراس، منها لحظات مأساوية لجرائم ارتكبها المستعمر الفرنسي من تقتيل وحرق وتدمير وتهجير ومنها الأحداث البطولية لرجال ونساء جاهدوا واستشهدوا من أجل الحرية والكرامة، خاصة وأن المنطقة أنجبت مناهضين للاستعمار قبل اندلاع الثورة أطلق عليهم تسمية الخارجون عن القانون، ويستحضر المجاهد مسعود بن شوري ابن شناورة الذي فتح لنا أبواب مسكنه بكل ترحاب، عند تنقلنا إليه، ذكريات تاريخية عاشها وعايشها وهو الذي فضل بعد الاستقلال النأي بنفسه رافضا امتيازات ومزايا، إيمانا منه بمواصلة نهج الحفاظ على مبادئ ثورة التحرير. المجاهد مسعود بن شوري وجدناه متسما ببساطة وعفوية جعلته طيلة عقود من الزمن لا يأبه للظهور إعلاميا على الرغم من رصيده الثوري في النضال والجهاد إبان الثورة التحريرية، وقبلها تحضيرا لاندلاعها، حيث وبعد الاستقلال مباشرة فضل رعي الغنم مواصلا تنقلاته بين الجبال والوهاد ناعما بالحرية والاستقلال التي ضحى من أجلها إلى جانب غيره من المجاهدين، ومحافظا على مبادئ الثورة بأن لا يحيد عنها، وقبل الغوص في ذاكرته أكد المجاهد بأن ما عاشه لا يمكن أن يختزله وقت قصير ليسرده، وقال بأن ذاكرته تحفظ كل صغيرة وكبيرة وهو ما أكده ابنه إسماعيل الذي رافقنا للقاء والده المجاهد. ويقول المجاهد مسعود بن شوري بأن قريته قبل الثورة كانت تعيش الهدوء الذي يسبق العاصفة، حيث كان رفقة غيره من أترابه بقريتهم الجبلية التي تضم دواوير عكريش وحمبلة وبوستة والهارة يترصدون ويتناقلون أخبار الوضع الدولي في ظل الحرب العالمية الثانية، وكان حينها عمره 12 سنة، مدركا بأن فرنسا تفرض التجنيد الإجباري على الجزائريين الذين يتجاوز سنهم 12 سنة لقيادتهم للحرب في مواجهة ألمانيا في الصفوف الأولى، وقال بأن الجميع كان يترصد الأخبار وينتظر وعد فرنسا في حال انتصارها إلى جانب الحلف الأطلسي في الحرب بمنح الجزائر استقلالها. وأكد المجاهد أن إخلاف فرنسا وعدها الذي تجلى في أحداث مجازر قالمة وخراطة وسطيف كان له الصدى الواسع والمعاكس لما كان ينتظره الجزائريون، مؤكدا بأن تلك الأحداث كان لها أثرها بالأوراس، خاصة بعد بروز الصراع بين المصاليين وحزب مصطفى بن بولعيد، وكان بن شوري مسعود من المنخرطين التابعين لمصطفى بن بولعيد سنة 1947، مؤكدا بأن النواة للتحضير للثورة انطلقت في تلك الفترة بعد أن كان مصطفى بن بولعيد يلتقيهم بجبل الهارة مؤكدا بأن خطابه كان واضحا بشأن الاستعداد للعمل المسلح، ومن بين ما كان يتوجه به إليهم حسب محدثنا المجاهد بن شوري عدم الحزن والأسى في حال فقداننا من نحب أثناء الحرب حتى وإن تعلق الأمر بوالدينا وعائلتنا. وأكد المجاهد مسعود بن شوري في حديثه عن تعليمات وتوجيهات مصطفى بن بولعيد بأن قوة الشخصية والكاريزما التي يتمتع بها بن بولعيد جعلته الوحيد الذي يتمكن من احتواء الذين تسميهم فرنسا بالخارجين عن القانون الذين خرجوا من قرية شناورة وعلى رأسهم حسين برحايل، ودرنوني علي، ومسعود بن زلماط، وقادة أحمد، وعايسي المكي، وقرين بلقاسم، وشبشوب الصادق، وغيرهم. مصطفى بن بولعيد كان قائدا فذا وهذه تعليماته قبل وأثناء الثورة قبل أن يخوض محدثنا المجاهد مسعود بن شوري حول حياة القائد البطل مصطفى بن بولعيد، أوضح بأن الأخير كان اقد اختار منذ سنة 1947 منطقة جبل الهارة للقاء المناضلين الذين كان بينهم تحضيرا للثورة التحريرية لا لشيء سوى لثقته بأعراش المنطقة وما جاورها من بني بوسليمان والتوابة والسراحنة، الذين التحق الكثير منهم بصف مصطفى بن بولعيد، وأكد المجاهد بأن اللقاءات كانت تتسم بسرية تامة تحضيرا للعمل المسلح الذي كان نتاجا بالنسبة لسي مصطفى –يضيف محدثنا- لأحداث مجازر الثامن ماي 1945، التي لم تترك داع للمطالبة بالاستقلال سياسيا. وكان القائد مصطفى بن بولعيد قد شرع بحسب المجاهد مسعود بن شوري في عمل عبارة عن تحضير نفسي وتعبئة عندما كان يتوجه إليهم بخطب ترك الخوف جانبا وإدراك ما هم مقبلين عليه من تضحيات في الأنفس، وحفاظا منه على السرية في بداية العمل، قال المجاهد بن شوري بأن التواصل وتدوين الأشخاص في الوثائق لم يكن بالأسماء وإنما بشيفرات عبارة عن أرقام وكان هو يحمل الرقم 20، مؤكدا بأن شخصية بن بولعيد القيادية كان لها التأثير المباشر في شحذ هممهم. وينفي المجاهد مسعود بن شوري ما يروج ويتداول حاليا على أن بن بولعيد باع حافلاته لتمويل الثورة، موضحا بأن بن بولعيد لم يدخر جهدا ولا مالا سعيا قدما لإنجاح الثورة لكنه لم يكن آنذاك ملزما ببيع حافلاته الثلاثة التي تعمل بين باتنة وأريس، مضيفا في ذات السياق بأن الحافلات كان يقودها كل من السائقين لحول وبوتعقاقن والحاج توقفت عن النشاط بعد أن عاقبت السلطات الفرنسية مصطفى بن بولعيد بسبب تحركاته ونشاطه السياسي واستبدلته بصاحب حافلات يدعى بن سخرية من شعبة أولاد شليح. ويتذكر المجاهد مسعود بن شوري مواقف للقائد مصطفى بن بولعيد في معاملاته مع المناضلين وخلال تدريب المجاهدين استعدادا للثورة، وكان ذلك دائما بجبل الهارة، وقال بأن مواقفه تلك كانت تزيده محبة وشأنا وسط المجاهدين، منها أنه ذات يوم وخلال تكرار عملية جمع الاشتراكات المالية من المناضلين المنخرطين، بلغ مسامع سي مصطفى بن بولعيد كما تتم مناداته احتراما ووقارا، من مصطفى بوستة، بأن المناضلين اشتكوا غلاء قيمة الاشتراكات، التي قدرت حينها ب 100 فرنك، فكان رد بن بولعيد أن قال له « نحن نريد الرجال ولا نريد الأموال، هدفنا أسمى، من بإمكانه الاشتراك فليقدم قدر استطاعته ومن لم يقدر، فنحن هنا موجودون». وقال المجاهد مسعود بن شوري بأن موعد الثورة ظل يتسم بسرية تامة ولم يكن له ولا لغيره من المجندين الحق أو الجرأة حتى في السؤال عن موعد اندلاعها لجدية القادة الذين يشتغلون تحضيرا لها، وباقتراب الموعد يتذكر أن بن بولعيد جمع 13 مليون فرنك للثورة دون أن يبيع حافلاته، وهو ما جعل المجاهد ينفي ما يروج عن بيع الحافلات، وبخصوص جلب السلاح، فأوضح بأن العملية كانت تتم من وادي سوف عبر طريق سري مرورا بالفيض وباستخدام الدواب. وكان المجاهد بن شوري قد تطوع بقطعة السلاح التي تملكها عائلته من نوع إيطالي، وقال بأن السلاح كان باهظ الثمن، ناهيك على أنه لم يكن متاحا بسهولة، حيث اشترى والده قطعة أولى ب 30 فرنكا وبعدها قطعة ثانية ب 120 فرنكا، وهو ما يعني حسبه آنذاك إمكانية اقتناء عدد من رؤوس الماعز والأغنام، التي تمثل تربيتها نشاطا مهما لسكان القرى والمداشر، وقد تطوع إلى جانب الكثيرين ممن يملكون أسلحة للثورة نزولا عند تعليمات مصطفى بن بولعيد في هذا الشأن الذي طلب ممن يمتلك سلاحا أو بإمكانه أن يقتنيه إحضاره ومن لم يملك سيوفر له السلاح استعدادا لنقله وتوزيعه بديار بن شايبة بدشرة أولاد موسى بإشمول في ليلة الفاتح من نوفمبر 1954. ومن بين تعليمات مصطفى بن بولعيد التنظيمية تحضيرا للثورة تحديد عدد الأفراد الذين يلتحقون من كل عائلة، حتى لا تترك النساء والأطفال والممتلكات دون من يتولاها ويرعاها، حيث أوضح المجاهد مسعود بن شوري بأنه قد طلب منه بعد اقتراب موعد الثورة أن يلعب دورا لوجيستيا بإحضار المؤونة وترصد حركة العسكر الفرنسي وعدم الالتحاق لحمل السلاح، بعد أن اختير شقيقه للعمل المسلح، وقال بأن مهمته استمرت لسنة قبل أن يلتحق برفاقه في العمل المسلح، تكفل خلالها برعي قطيع مكون من 150 رأس ماعز و100 نعجة مرابضا بجبل الهارة، وشارك في نقل السلاح إلى دشرة أولاد موسى. بن بولعيد استهجن حادثة قتل معلم فرنسي بتاغيت أكد المجاهد مسعود بن شوري، بأن التحضير للثورة بتدريب المجاهدين وجلب السلاح كان يتم بسرية تامة منذ البداية إلى غاية بلوغ مرحلة إعداد الأفواج وتوزيع السلاح بدشرة أولاد موسى، وقال بأن القائد بن بولعيد كان يتمتع بدهاء خارق ففضلا عن تمكنه من الحفاظ على سرية التحضير للثورة فقد أرادها –يضيف المجاهد - أن تكون شاملة ليلة اندلاعها في الفاتح نوفمبر بحيث تشمل عدة مناطق بتوجيه ضربات للعدو الفرنسي حتى لا تتكرر ردة فعله مثل ما وقع بأحداث مجازر 8 ماي 1945 وهو ما كان يحرص عليه مصطفى بن بولعيد حسب محدثنا. ويروي محدثنا أن بن بولعيد وجه تعليمات صارمة قبل اندلاع الثورة وأثناءها بعدم إطلاق النار على المدنيين من الفرنسيين واستعمال السلاح في مواجهة العسكر الفرنسي. ويتذكر مسعود بن شوري كيف ثارت ثائرة فرنسا بعد اندلاع الثورة بالانتقام من أهل قريته بمداشر عكريش وبوستة وحمبلة بالقتل والحرق والتدمير والتهجير من الديار، وقال وهو يتحدث عن الجرائم بوجه سرعان ما تغيرت ملامحه بأن ما ارتكبته فرنسا من جرائم بشعة لاتعد ولا تحصى ولا يمكن أن تغتفر، خاصة وأن القوات الفرنسية لم تفرق بين الكبير والصغير والمرأة والرجل. واستذكر المجاهد جريمة قتل أربعة نساء بينهن حوامل بدشرته في عكريش في التاسع عشر نوفمبر 1954 اللواتي حاولن التصدي لهمجية قوات الاستعمار، حيث قضي عليهن دون رحمة ولا شفقة، وهن منصورة بوستة، وجمعة بوستة، وفاطمة جغروري، وفطيمة برحايل، وراح المجاهد يلوم في كلامه أحد الأشخاص يقال إنه طلب من النساء أن لا يبرحن الدار لأن العسكر الفرنسي لن يتعرض لهن قبل أن يقتل أربعتهن ناهيك عن شهداء آخرين من المنطقة من أهله وجيرانه ورفاقه بينهم عفوفو ومحمد صبايحي، وأحمد غسكيل، ومختاري، وقادة عمار الذين دخلوا في مواجهات مع الجنود الفرنسيين. ويقول عمي مسعود بن شوري بأن أجله لم يصل على الرغم مما عاشته قرى شناورة وتكوت من بطش المستعمر، حيث كان في كل مرة ينجو بحسن تنقله وإدراكه لتنقلات العدو الفرنسي، ويضيف بأن التدريبات التي تلقاها تحت لواء القائد مصطفى بن بولعيد بجبل الهارة رفقة آخرين مكنتهم من التحرك قبل وأثناء الهجومات، حتى أنه كان يقضي كل ليلة في مكان غير الذي مر به حتى لا يتم التفطن له أو ترصده بوشاية. رعاة الغنم كانوا دليلنا بين المناطق في رحلة جلب السلاح من تونس أكد المجاهد مسعود بن شوري الذي كان يسرد علينا تسلسل الأحداث التاريخية التي عاشها بقريته بأنه بعد اندلاع الثورة راحت تزداد مخاطر توقيفه أو قتله من طرف العسكر الفرنسي، وأوضح بأنه بعد أن انصاع لتعليمات قيادة الثورة على أن يظل عند اندلاع الحرب يقوم بدور لوجيستي كوسيط بين المجاهدين والشعب مشيدا هنا بدور الشعب في توفير المؤونة ومد يد العون دائما للمجاهدين في الجبال، إلا أنه بعد مرور عام من اندلاع الثورة التحريرية، وجد نفسه ملزما بالالتحاق بالعمل المسلح خاصة بعد أن انكشف أمر العديد من رفقائه الذين يقومون بنفس المهام والذين استشهدوا على غرار مصطفى بن شوري وعمر بن شوري وعلي بن شوري وعمار غقالي، مشيرا إلى أن عمل توفير المؤونة لم يكن سهلا ولا يقل خطورة عن حمل السلاح وكان يتطلب دراية ومعرفة بالسكان وفي من يجب وضع الثقة. وقد طلب من المجاهد مسعود بن شوري وهو يروي مسيرته مواصلة مهامه ما دامت السلطات الفرنسية الاستعمارية لم تتفطن لأمره إلا أنه وفي تواصله مع القائد مصطفى بوستة أكد أن مأموريته لم تعد سهلة خاصة بعد أن حذره الخوجة بالمنطقة المدعو (سي بلقاسم ح) والذي كان يعمل في سرية للثورة دون أن تتفطن له فرنسا بذلك وهو ما جعله يقرر الالتحاق سنة 1955 بالعمل الثوري المسلح تحت قيادة المجاهد مصطفى غوقالي ليشارك في عديد العمليات والمعارك بين جبال هيط هاملالث، وهاجموث، وسيدي علي، والوسطية، ودوار لولاش، وأشاد محدثنا ببسالة المجاهدين الذين التقاهم من أعراش السراحنة وأولاد عبد الرحمان وبني ملكم بمنطقة كيمل. ويقول المجاهد مسعود بن شوري أن غنم السلاح في المعارك كان يعني الشيء الكثير والعكس صحيح في حال فقد السلاح تبعا لتعليمات القيادة، مؤكدا إلحاق الخسائر المادية والبشرية في قوات العدو الفرنسي عديد المرات في المعارك التي شارك فيها منها معركة منطقة الوسطية ومعركة هيط نغيولث بجبل الهارة والتي استشهد فيها أربعة شهداء من مجموع 23 مجاهدا وهم بوستة علي وقريبه الذي يحمل نفس اسمه مسعود بن شوري وصادق بوستة، ومن المعارك التي خاضها أيضا بمنطقة صفيح بوزكورن بإينوغيسن. ومن بين أهم المهام التي أوكلت للمجاهد مسعود بن شوري رفقة 200 مجاهد هي جلب السلاح من تونس سنة 1957 وكان آنذاك ضمن مجموعة تتكون من 18 مجاهدا من مركز بوستة التي انطلقت إلى جانب مجموعات أخرى يذكر منها مجموعة تكوت بقيادة الطيب زكور ومجموعة إينوغيسن بقيادة بلقاسم سعودي ومجموعة بني ملول بقيادة إبراهيم عباس، وكشف عن اعتمادهم في تنقلاتهم بين مختلف المناطق باتجاه الحدود التونسية على رعاة الغنم الذين كانوا بمثابة دليلهم في كل منطقة يمرون بها عبر أولاد يعقوب، وجبل بوتخمة ومزوزية وبحيرة الحراكتة والطويلة وبحيرة الأرنب وصولا إلى جبل بوخضرة والشريعة مضيفا بأنهم كانوا يلزمون آخر راعي بالبقاء معهم إلى غاية إنهاء المهمة. وأضاف عمي مسعود بن شوري بأن رحلة جلب السلاح تمت بنجاح بعد أن اختزلوا المدة المقررة في ثلاثة أشهر إلى أربعين يوما، إلا أن ذلك لم يكن يعني حسب محدثنا بأن العملية كانت سهلة حيث اضطروا في رحلة العودة للدخول في مواجهات مع العسكر الفرنسي بجبل لقماك وهم الذين اجتازوا خنادق خطوط الأسلاك الكهربائية بالحدود مشيرا إلى أن فرنسا كانت تزرع الألغام وتقيم خطوط الأسلاك الكهربائية لمنع المجاهدين من المرور لتونس ما صعب من مأموريتهم إلى جانب مجاهدين آخرين التقوهم هناك جاؤوا من منطقة القبائل، وقد نجحوا في أخذ السلاح من منطقة سوق الجمعة مرورا بالقصرين في تونس، وأكد معاينة تلك القطع التي كانت من صنع إنجليزي، حيث كان يجيد استعمال ومعاينة السلاح وهو الذي تعلم ذلك من والده في سن 12 من عمره. أقمنا وليمة فرحا بفرار بن بولعيد من السجن وهكذا انفجر لغم الراديو عليه يروي المجاهد مسعود بن شوري الذي كان له احتكاك مع القائد مصطفى بن بولعيد سنوات قبل الثورة خلال التحضير لها، وكذلك أثناء الثورة، بأن بن بولعيد يحظى بمكانة خاصة وسط المجاهدين، وتأثيره كان يبدو جليا من خلال خطاباته وتعليماته في شحذ الهمم، لهذا بعث فيهم خبر فراره من سجن الكدية بقسنطينة، فرحة كبيرة مردفا القول : «فرحتنا كانت لا توصف كيف لا وزعيمنا سي مصطفى بن بولعيد عاد بيننا»، وقال المجاهد بن شوري بأن بن بولعيد التحق بإفري لبلح، قبل أن يلتحق بهم في عباسة بمركزهم الذي يضم 100 مجاهد، وتعبيرا عن فرحتهم بعد أن بلغهم خبر فرار بن بولعيد من السجن سارعوا ليلا لجلب 7 خراف لإقامة وليمة بمنطقة بوستة بمناسبة عودة القائد مصطفى بن بولعيد. وخلال حديثنا عن استشهاد مصطفى بن بولعيد، راح يتحسر المجاهد مسعود بن شوري عن فقدانه في حادثة انفجار الراديو الملغم، ويروي لنا أنه كان حاضرا خلال الانفجار، حيث كان ضمن مجموعة من المجاهدين يترأسها مصطفى بن بولعيد تضم 51 مجاهدا، وقد شدوا الرحال للتنقل مشيا من مركز عباسة بكيمل، باتجاه إيش أزيزا أو الجبل الأزرق، وبنبرة متحسرة يقول محدثنا بأنهم لم يكونوا على علم بأن القدر يقود القائد مصطفى بن بولعيد في تلك الرحلة للاستشهاد. ويصف محدثنا، مصطفى بن بولعيد بأنه فضلا عن دهائه الحربي وكاريزمته القيادية فهو إنسان بسيط ومتواضع وسط المجاهدين لم يكن يتعامل مع محيطه من المجاهدين بمعيار الرتب، حيث كان يحضر لهم الطعام ويناولهم إياه ويتولى الحراسة الليلية عن المجاهدين، وهو ما تحفظه ذاكرة المجاهد مسعود بن شوري، عندما ناداه بن بولعيد « يا شاب دعني أتولى الحراسة بدلا عنك واذهب لتنام» وكذا عندما ناوله صباحا طعاما من الأعشاب قام بتحضيره بنفسه، حيث لم يكن لديهم دقيق أو شيء يأكلونه طيلة يومين من المشي، وقام حينها بن بولعيد بتحضير عشبة «القبابوش» رفقة كاتبه، وراح يقدم ملعقتين في فم كل مجاهد، ويقول بن شوري بأن بن بولعيد بقدر تواضعه، إلا أنه لم يكن لهم الجرأة ليسألوا أو يبحثوا في ما يقوم به. وفي مهمتهم بين عباسة والجبل الأزرق، التي كانت الأخيرة بالنسبة لمصطفى بن بولعيد اضطروا للاختباء من العسكر الفرنسي، خلال التنقل بين بوستة، وحمبلة والكاف لحمر وتيغانمين، وتافرنت، وأولاد سعادة ونارة ويتذكر المجاهد أن الأمطار كانت تتهاطل بغزارة، وباقترابهم من منطقة تيخوباي المكشوفة طلب منهم بن بولعيد التوزع في مجموعات تضم فردين وثلاثة، حتى لا ترصدهم الطائرات مجتمعين، وكان بينهم أيضا شقيق مصطفى بن بولعيد وهو عمر بن بولعيد، إلى جانب مجاهدين على غرار قوزير ومصطفى بوستة، وغوقالي وإبراهيم زرايب، وصالح جغروري. ويتذكر المجاهد بن شوري، أنه لما حان موعده في الحراسة الليلية بطلب من قائده مصطفى غوقالي، تقدم منه مصطفى بن بولعيد وقال له «اجلس يابني اجلس سأحرص مكانك» وحينها استحلفه غوقالي، إلا أن بن بولعيد أصر بالقول « لا أنا من سيحرص مع وليداتي» وتولى الحراسة والأمطار تتساقط بشدة، قبل أن يأتي الدور لإبراهيم الزرايب. و بعد يومين من المشي، وصل المجاهدون الذين على رأسهم مصطفى بن بولعيد إلى منطقة تيخوباي مثلما يرويه لنا المجاهد مسعود بن شوري، وقد نال منهم التعب بسبب الجوع، حيث قاموا بإيفاد 06 مجاهدين للبحث عن المسمى محمد بن مسعود بلقاسم، ليأتيهم بالسميد، وفي فترة استراحتهم بعد توقيت العصر قدم شخص معروف على متن بغل أبيض اللون، كان هو من أتى بجهاز الراديو ليقدمه إلى مصطفى بن بولعيد، وكان ذلك الجهاز ملغم دون علمهم –يضيف المجاهد مسعود بن شوري-. ويتذكر المجاهد أن جهاز الراديو بني اللون لم ينفجر في حينه، حيث عاد المجاهدون الذين ذهبوا لجلب السميد، بالمؤونة وقد راحت كل مجموعة تحضر الأكل والخبز (الكسرة) داخل ديار مهجورة بمنطقة تيخوباي، ويفترض أن بن بولعيد كان يطلع على الرسائل التي تصله مخبأة وسط المؤونة، وكان صاحب البغل الذي أتى بالراديو قد غادر، وبين توقيت المغرب والعشاء سمعوا دويا دون أن يعلموا حينها أن الأمر يتعلق بانفجار جهاز الراديو، واعتقدوا أن أمرهم انكشف وقد هاجمتهم القوات الاستعمارية الفرنسية. وفي تلك الأثناء -يروي بن شوري- أن المجاهد الذي يتولى الحراسة في مجموعته خارجا وهو أحمد غوقالي، طلب منهم ألاَ يهرعوا في الخروج، لأن الأمر لا يتعلق بهجوم للقوات الفرنسية وإنما انفجار وقع في الدار التي يتواجد بها القائد مصطفى بن بولعيد، وبتقدمه ليرى ما حدث، قال بأن الصدمة كانت كبيرة حيث شاهد بأم عينيه مصطفى بن بولعيد مستشهدا مستلقيا على جانبه الأيسر، في حين أن طرفه الأيمن لذراعه منشطر عن جسده من شدة الانفجار. وكان المشهد مهولا ومحزنا في وصف المجاهد مسعود بن شوري لما حدث بفقدانهم للقائد مصطفى بن بولعيد، ويقول بأن شقيق مصطفى وهو عمر بن بولعيد، كان الأكثر تأثرا بعد أن دخل في حالة هيستيرية غير مصدقا لما وقع وهو يصرخ ويبكي بحرقة ألم كبير، لتتسارع الأحداث في تلك الليلة -يضيف المجاهد مسعود بن شوري- الذي كان شاهد عيان على واقعة استشهاد القائد مصطفى بن بولعيد، وقال بأن القادة الموجودين إلى جانب مصطفى بن بولعيد طلبوا منهم التزام الكتمان حتى لا ينتشر خبر استشهاد مصطفى بن بولعيد سريعا وكانوا قد دفنوا جثمانه بذات الموقع وغطوه بروث الماعز والغنم حتى لا يجلب الالتفات في البحث عنه من القوات الفرنسية. وبالنسبة للمجاهد مسعود بن شوري فإن تلك المشاهد ستظل محفورة في ذاكرته مترحما على من استشهدوا فداء للوطن، ويرى بأن فرنسا خططت لاغتيال بن بولعيد وحاولت بعث الفتنة بإلصاق تهم في رفاقه، مؤكدا بأن فرحة الاستقلال بالنسبة له لا توصف وقد تركناه في بيته بمنطقة شناورة الهادئة التي غادرناها، وهي تحفظ أسماء شهدائها الأبطال على لافتات مؤسساتها التعليمية، على غرار حسين برحايل ومصطفى بوستة وغيرهم ممن التحق بقائدهم مصطفى بن بولعيد، وذلك حتى لا تنساها الأجيال الصاعدة.