تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة والقانونيّة، فإذا هوّ عصر متوحّش، يحتكمُ إلى موازين القوّة بالأساس، فتصبح مكانتك فيه متوقّفة على حجم الأذى الذي بإمكانك أن تُلحقه بالآخرين. إنّنا في عالم يُبيحُ لصاحب القوّة فعل ما يُريد، وفوق ذلك يُتيح له إمكانيّة إطفاء كلّ صوتٍ رافضٍ لهذا الواقع المفروض، كحالِ الإعلام في الغرب الذي أصبح نموذجًا لما يجب تفاديه عند استدعاء الحريّة، وقد تفوّق في رياضة التّضليل على أشقائه في البلاد الموصوفة بالشموليّة، بل إنّه تحوّل إلى محاكم تفتيش علنيّة، يُدان فيها كلّ من لا ينتصر للرواية الوحيدة المسموح بها عند الحديث عن حرب الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون، ولا يُسمح فيها بإبداء التأثر عند رؤية مشاهد قتل الأطفال المروّعة، وتحوّلت استضافة السيّاسيين والمشاهير في تلفزيونات تتمتّع بسمعةٍ عالميّةٍ إلى مناسبةٍ لقيّاس نسبة صهيونيّتهم، فيما يُشبه مكارثيّة جديدة تُمارس على نطاق واسع، هذه المرّة. ورأينا بعض الوجوه الصحافيّة المألوفة وهي تنزعُ الملامح السّمحة وترتدي قناع الوحش في مشاهد استنطاق تدفع المستجوب إلى التلذّذ برشفة الدّم، معزّزة أطروحات التحليل النفسي في ارتكازه على نظرية التطوّر في بداياته، وبالضّبط عند تفسير تكشيرة الإنسان باستعادة سلوكٍ كامنٍ من مرحلةٍ سابقة في النشوء، أي أنّ الانفعال يدفع الإنسيّ إلى اقتراض عاداتٍ من ماضيه الحيوانيّ. لقد طغى فعل الشر في هذا العصر، مُعيدًا التاريخ الأسود للإنسانيّة إلى الواجهة، بعدما أوهمنا القيّمون على شؤون العالم أنهم نجحوا في ترميم الجراح بإقامة نظام دولي وهيئات يحتكم إليها لتجنّب الانزلاقات الدموية، وتبيّن مع توالي التجارب، أن هذه الهيئات مجرّد أدوات بين أيدي قوى ترفض التوقّف عن ممارسة الهيمنة، وأن القانون الدولي لا يُترجم تطورا في تعاطي الإنسانيّة مع المشاكل التي تعترضها في تصريف شؤونها، بل مجرّد ورقة يستعملها الأقوياء عند الرغبة في إيذاء الضعفاء. وما نشهده اليوم هو تكشيرة تقترضُ بموجبها حضارة العصر سلوكات وحشيّة من خزانة الأسلاف.