النخبة القديمة، مثل المؤسسات القديمة، في طريقها للزوال * ما حدث في مصر هو بالأساس ثورة ثقافية عز الدين شكري فشير كاتب وأكاديمي ودبلوماسي ومحلل سياسي مصري، دارس ومحلل للعلوم السياسية، ولد في الكويت عام 1966 ونشأ في مصر حيث تخرج من جامعة القاهرة عام 1987 حاصلاً على بكالوريوس العلوم السياسية. وعقب تخرجّه التحق بعدد من الجامعات الأجنبية في فرنسا وكندا ليدرس ويحصل على درجات أكاديمية متتالية. وكانت البداية بالدبلوم الدولي للإدارة العامة، من المدرسة القومية للإدارة بباريس في 1992. تلي ذلك ماجستير العلاقات الدولية، جامعة أوتاوا، في1995 عن رسالته في مفهوم الهيمنة في النظام الدولي، ثم كانت دكتوراه العلوم السياسية من جامعة مونتريال، عام 1998 عن رسالته حول الحداثة والحكم في النظام الدولي. وتوازت هذه الدراسات مع عمل عز الدين شكري فشير محاضراً في الجامعات التي درس بها وجامعات أخرى وكاتباً للعديد من المقالات السياسية في عدد من الدوريات والجرائد الصادرة باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية. الدكتور عز الدين شكري فشير يعد من أبرز الدبلوماسيين المصرين المشتغلين في حقل الثقافة والدبلوماسية في ذات الوقت، حيث اشتغل دبلوماسياً بالخارجية المصرية وبمنظمة الأممالمتحدة وذلك حتى أغسطس 2007، بعدها ترك الدبلوماسية وتفرغ للكتابة والتدريس. حالياً هو أستاذ يُدرّس العلوم السياسية بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة. صدرت له عدة روايات منها: "مقتل فخر الدين" 1995، "أسفار الفراعين" 1999، "غرفة العناية المركزة" 2008 والتي لقيت اهتماماً شديداً من النقاد والجمهور على حد سواء، كما رشحت لجائزة البوكر العربية (القائمة الطويلة) عام 2008، "أبو عمر المصرى" 2010، وروايته الأخيرة "عناق عند جسر بروكلين" صدرت أواخر2011 عن دار العين بمصر، وكانت ضمن اللائحة القصيرة للبوكر هذا العام، وهي رواية عن الاغتراب بمختلف أشكاله ومستوياته ومعانيه. في أفريل 2011 عينته الحكومة الانتقالية أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة في مصر، إلا أنه استقال من المنصب بعد أربعة شهور قائلاً: "مقعد السلطة لا يريحيني، وبين مقعد السلطة ومقعد الكتابة اختار وأفضل مقعد الكتابة بلا تردد، فالكتابة حرية لا يعادلها أي منصب". للدكتور فشير عشرات من المقالات حول الأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر والعالم العربي، منشورة بصحف ودوريات مصرية وعربية وألمانية وكندية وأمريكية منذ عام 1987. في هذا الحوار يتحدث فشير عن ثورة يناير ويرى أنها بالأساس ثورة ثقافية، كما يتحدث عن رواياته وعن جائزة البوكر التي يرى أن الترشح لها يعني اعترافاً وشهادة، من لجنة تحكيمها بأن للرواية قبولاً في مكان ما، وبأن هذا أفضل إسهام للبوكر. حاورته/ نوّارة لحرش روايتك "عناق عند جسر بروكلين" وصلت إلى اللائحة القصيرة لجائزة البوكر هذا العام، هل كنت تتوقع هذا، وماذا تعني لك البوكر؟ عز الدين شكري فشير: لا يمكن لكاتب عاقل توقع وصول روايته للائحة أي جائزة، لأن ترشيح الروايات للجوائز يعتمد أولاً على لجنة التحكيم، وكل لجنة ولها ذائقة أدبية خاصة جداً ونابعة من تفاعل أعضائها مع بعضهم البعض. وثانياً تعتمد على ما ينشر في نفس العام من كُتاب آخرين لا يعلم الكاتب بالضرورة شيئاً عنهم. لكن في النهاية فإن الترشح لجائزة مثل البوكر يعني اعترافاً، شهادة، من لجنة التحكيم لهذه الجائزة في هذا العام بأن للرواية قبولاً في مكان ما. للمرة الثانية تتواجد في البوكر، فروايتك «غرفة العناية المركزة» كانت حاضرة في لائحة عام 2008 وهذا العام رواية "عناق عند جسر بروكلين"، فماذا تقول؟ عز الدين شكري فشير: أقول ربنا يزيد ويبارك. لكني لست وحدي في هذه النعمة/المحنة، نفس الشيء حدث للحبيب السالمي وجبور الدويهي وربيع جابر. لم لا؟. البوكر وفي ظرف سنوات قليلة أصبحت أهم وأكبر جائزة مختصة في الرواية، كما أصبحت مطمح كل الروائيين العرب، برأيك هل تمنح انتشارا أكثر لروايات اللائحة الطويلة والقصيرة والمتوجة، وكيف تقارنها مع بقية جوائز الرواية الأخرى؟ عز الدين شكري فشير: ترشيح رواية للجائزة يسلط عليها اهتمام القاريء، وهو شيء مطلوب خاصة في ظل صعوبات حركة النقد العربي ومشاكل التوزيع في العالم العربي. الترشيح للبوكر يحل بعض هذه المشكلات ويسمح للقاريء العربي بالتعرف على أعمال روائية لكُتاب من بلاد عربية أخرى، وفي رأيي هذا أفضل إسهام للبوكر. "عناق عند جسر بروكلين" تتطرق للاغتراب واللا انتماء وحالة الفرد العربي المتأزمة على أكثر من صعيد، الملاحظ أن أغلب الروايات العربية الأخيرة مشحونة ومهجوسة بتيمة الاغتراب واللا انتماء، ما رأيك؟ عز الدين شكري فشير: هناك أكثر من قراءة ل "عناق عند جسر بروكلين"، بعضها يركز على الاغتراب بمعنى الهجرة، وبعضها على الاغتراب بمعنى أوسع وأعمق: اغتراب الإنسان عن نفسه ومحيطه سواء كان مهاجرا أم في بلده الأصلي. وهناك من قرأها أيضاً باعتبارها تتناول العلاقة بين الشرق والغرب. شخصياً، أحب تعدد القراءات، وأقبلها، لكن قراءتي المفضلة هي تلك التي تتجاوز الثنائيات التقليدية بين شرق وغرب وتعاسة وسعادة وهجرة وعودة. يمكنكِ قراءة الرواية باعتبارها محاولة لتفكيك هذه الفئات وإعادة طرح قضايا إنسانية أساسية في سياق انفجرت فيه التقسيمات التقليدية. يمكنكِ أيضا قراءتها باعتبارها رواية عن المراوحة بين الفعل والاستسلام: عن دور البطل وصراعه أو قبوله لما يسمى بالمصير. ورواية «أبو عمر المصري» تتطرق لموضوعة التنظيمات الإسلامية المسلحة والقتال في أفغانستان، في حين روايتك الأخيرة تتطرق لعلاقة الإنسان بالآخر وتسرد تساؤلات الاغتراب والوجود الإنساني، الأولى حكاية دم ودمار والثانية حكاية إنسان وتيه واغتراب، أيهما كانت كتابتها أصعب بحكم المعطى السياسي والإنساني لكل رواية؟ عز الدين شكري فشير: الروايتان تتعرضان تقريباً لنفس الأسئلة، الأسئلة المرتبطة بالحالة الإنسانية نفسها: البحث عن النفس، البحث عن العدالة، الحب، الواجب، الصراع مع الذات ومع الغير. الفارق بين الروايتين في السياق. "أبو عمر المصري" ليست رواية عن التنظيمات الإسلامية المسلحة، ولكنها تتخذ من هذه التنظيمات وحكاياتها تكئة لعرض حياة الأشخاص وصراعاتهم مع أنفسهم، تماماً مثلما تتخذ "عناق عند جسر بروكلين" من الاغتراب الجغرافي تكئة لطرح أسئلة الشخصيات. ما الذي تحقق في نصك بعد ثورة 25 يناير، وهل الآن وقت كتابة الثورة وتفاصيلها وتمفصلاتها، أم يحتاج الأمر لوقت أكثر حتى تنضج في النصوص الروائية؟ عز الدين شكري فشير: أكثر شيء تغير في رأيي هو مسألة الاستسلام والإرادة. ثورة يناير أعلنت ظهور نوع جديد من المصريين يرفض الاستسلام والسلبية والانسحاق تحت وطأة القهر. وإن استمرت هذه الروح – وأعتقد أنها ستستمر– فإن العالم الروائي المصري سيختلف بشكل كبير. لكن الأمر يحتاج لوقت حتى تستقر هذه الشخصيات والعلاقات الجديدة ويمكن الكتابة باطمئنان عن "واقع جديد". لكني في نفس الوقت بدأت كتابة ونشر رواية – مسلسلة يومياً في جريدة التحرير المصرية – تدور في سياق الثورة وما بعدها. لم أستطع مقاومة إلحاح هذه الرواية علي رغم اعتقادي بأنه من المبكر الكتابة عن واقع لازال في طور التشكل. هي مغامرة، وقد تفشل فشلاً ذريعاً، لكن ما فائدة الرواية إن لم نغامر؟. هناك روايات عن الثورة صدرت مؤخرا، كيف وجدتها، وهل كانت في مستوى الروايات أم يوميات كُتبت على عجل؟ عز الدين شكري فشير: الحقيقة لم تتح لي فرصة قراءتها، خاصة وأني أكتب بشكل يومي منذ شهرين تقريباً روايتي التي تنشر في حلقات. هل يمكن تصنيف الرواية المصرية ما بعد الثورة، بالرواية الجديدة، أو الكتابة الجديدة؟ عز الدين شكري فشير: ليس بعد، سنرى. لكن في رأيي إما سيكتب المؤلفون رواية جديدة أو لن يلتفت كثيرون لما يكتبون. إن كنت محقاً في تصوري للتغييرات العميقة التي تجري في المجتمع والثقافة المصرية، فلن يلتفت أحد بعد خمس سنوات لروايات تحمل واقع وشخصيات و"هواء" السبعينات أو التسعينات. قلت: "رواياتي لم تتنبأ بالثورة، لكنها كانت تبحث عنها"، هل توضح كيف، وبأي سياقات ومعطيات، وأي رواية كانت فيها بذور ثورية أكثر؟ عز الدين شكري فشير: "أسفار الفراعين" التي نشرت في 1999 تتناول أسفار تسعة من المصريين الذين يحاولون الفرار من واقع منهار: دولة فرعونية تعفنت مؤسساتها حتى نما الطحلب الأخضر على جدرانها، وفرعون ميت في قصره بحي مصر الجديدة وأعوانه يبقونه حياً بشكل اصطناعي، وأوبئة وتحلل يضربان البلاد. الشخصيات التسعة تبحث عن مخرج من هذه اللعنة ولا تجده. في "غرفة العناية المركزة" أربع أشخاص انهار فوقهم مبنى القنصلية المصرية بالخرطوم، وهم جميعاً ساهموا بشكل أو بآخر في هذا الانهيار وإن كانوا ضحاياه في نفس الوقت. يقضون وقت الرواية كلها تحت الأنقاض، يرفضون الموت، ويبحثون عن شعاع للضوء وطريق للخروج. "مقتل فخر الدين" (1995) و"أبو عمر المصري" (2010) تتناولان قضية القهر والبحث عن العدالة، بما في ذلك من خلال استخدام العنف الذي يتبدى في تحول البطل إلى أبو عمر المصري المقاتل في أفغانستان ثم في مصر، وفي النهاية يصيبه قسط من أفعاله فيبدد حلمه في تحقيق العدالة ويعود لمصر مريضاً يقوده ابنه – ضحية العنف – دون أن يعرف إلى ماذا يعود بالضبط. نفس البحث، نفس الأسئلة، ولا إجابة. ثورة يناير هي الإجابة. تقول باندثار المؤسسة الثقافية، لكن هناك من يعول عليها للهيمنة، أو للريع الذي لن يتسنى في مكان آخر غير هذه المؤسسات، وهذا يعني أن اندثارها غير وارد ربما؟ عز الدين شكري فشير: هذه بقايا مؤسسات، أطلال، لم تعد حتى تصلح أدوات لبسط الهيمنة ولا للتربح. هل اعتقادك باندثار هذه المؤسسة هو الذي دفعك للاستقالة من منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة بعد 4 أشهر من تعيينك؟ عز الدين شكري فشير: نعم. البعض يرى أن الثورة الثقافية لم تحدث بعد، ما رأيك، وكيف تكون هذه الثورة، هل على مستوى النخبة أم على مستوى المؤسسات الثقافية، كيف تحديدا؟ عز الدين شكري فشير: على العكس، أعتقد أن ما حدث هو بالأساس ثورة ثقافية، واحتجاجات يناير وما تلاها هي انعكاس لهذه الثورة. لقد تغيرت رؤية عدد كبير من المصريين لأنفسهم، ولغيرهم، وللعالم من حولهم، واختلف نسقهم القيمي، وتوقعاتهم من أنفسهم ومن غيرهم والعالم، ومرجعيتهم في تحديد الأساس الأخلاقي للسلوك. هناك طريقة أخرى في التفكير، وفي العمل، وأولويات مختلفة. هذه هي الثورة الأعمق، وهي لا تخص تياراً بعينه بل تشمل الجميع. ستجدها بشكل أكبر لدى الأصغر سناً، لكنها تشمل العديد من الجيل الوسط. هذه الثقافة تدفع الثقافة القديمة التي يتشارك فيها معظم الجيل القديم سواء كانوا في النظام أم في المعارضة. هناك ثقافة تزيح أخرى، بشكل يذكر بالستينات في فرنسا وفي الولاياتالمتحدة. ربما لا يصل هؤلاء الشباب للحكم، لكنهم سيغيرون وجه مصر كلها. كيف تتوقع أن تكون العلاقة بين النخبة القديمة والنخبة الجديدة، خاصة بعد الثورة، حيث هناك غربلة للأسماء بسبب بعض المواقف من الثورة؟ عز الدين شكري فشير: النخبة القديمة، مثل المؤسسات القديمة، في طريقها للزوال. لأن الثورة، مثلما قلت، هي ثورة ثقافية، ولم يعد أحد من أبناء الثقافة الجديدة يتحمل سماع أو رؤية أو قراءة ممثلي الثقافة القديمة، حكومة ومعارضة على حد سواء. إلى أي حد يحاول الكاتب فيك أن ينتصر على الدبلوماسي والأكاديمي؟ عز الدين شكري فشير: الكاتب كان دائماً الشخصية الأقوى، لكنه في حسه الروائي يسمح للدبلوماسي والأكاديمي بالقيام بأدوارهما، وهو يتفرج عليهما طيلة الوقت ويسخر منهما غالباً. هل تقرأ الرواية الجزائرية، ومَنْ مِن كُتابها قرأت له أكثر؟ عز الدين شكري فشير: ليس بما يكفي: فلم أقرأ لروائيين جزائريين سوى مالك حداد، كاتب ياسين، الطاهر وطار، وأحلام مستغانمي. وهي رواية لها مذاق خاص وممتع، لكن للأسف ظروف توزيع الكتاب العربي تؤدي لإخفاء الروايات العربية عن الجمهور العربي بدلاً من أن تكون وسيلة لنشرها وترويجها. هل من كلمة تود قولها في ختام الحوار؟ عز الدين شكري فشير: نعم، أود أن أبدي الأمل في تواصل أدبي عربي أكبر، بحيث نستطيع جميعاً أن نقرأ كتابات بعضنا البعض، حين تصدر، ولا نحتاج لجائزة أو مهرجان كي تعرفنا بأدب البلدان العربية الأخرى. آمل في يوم يصبح فيه الفضاء الأدبي العربي فضاءً واحداً، يختلط كُتابه وتنشر كتاباته بغض النظر عن بلد المولد.