اليمين المتطرف والحركات اليهودية تعتبره الرّجل الأكثر خطرا اجراء حوار مع شخصية دينية وعلمية وسياسية، بحجم رجل الدين والباحث الأستاذ عبد الله زكري، ليس أمرا سهلا. فهذا الجزائري، "المزابي" الأصل يتمتّع بشخصية قوية واطلاع واسع على الاسلام وأحوال المسلمين. وله ديناميكية ومواقف جعلت منه الرّجل الأكثر حضورا في مختلف الأوساط، ومقصد الجميع في الشورى والرأي. الأستاذ زكري، أحد ركائز مسجد باريس يتميّز عن سواه من رجالات الدين والفكر بشجاعة المواقف، حيث لا يمسك العصا من وسطها كما يقول المثل، "فطن ويتمتّع ب "دهاء" سياسي وخبرة كبيرة تعطي أحيانا الاعتقاد بأنه رجل سياسة أكثر من رجل دين. في فرنسا، دائم الحضور في واجهة الأحداث. ويشكل مادّة اعلامية باستمرار في مختلف وسائل الاعلام لكثرة نشاطاته وحركيته الدؤوبة، بل محّط أنظار كل التيارات السياسية والأحزاب الفرنسية. ولعلّ تمزيقه لبطاقة انخراطه في الاتحاد من أجل الحركة الشعبية أمام كاميرات العالم أيام ساركوزي، كرسّت حضوره في الأذهان وفي الرأي العام الفرنسي. فلا أحد غيره تجرّأ واقدم على فعل هذا.. ثم عاد مؤخرا من بوّابة محمد مراح وقضية مقتله. هذه الأيام عاد الأستاذ زكري إلى الواجهة بمطالبة الرئيس هولاند وحثه على اتخاذ قرار يدين معاداة الاسلام ويجعل من ذلك واجبا وطنيا على غرار قراره بجعل معاداة السامية واجبا وطنيا. الأستاذ زكري المقيم بنيم (جنوبفرنسا أين يسيطر اليمين المتطرف) مازال صامدا ومقاوما للطروحات المتطرفة المعادية للمسلمين والاسلام. ومكافحا للعنصرية التي وقف وأوقف أسماء بارزة من المتطرفين بسببها أمام العدالة، وجرّ كثيرا من العسكريين أمام القضاء. من ذلك جرّ ضابط صفّ فرنسي في مثل هذا الشهر من العام الماضي بمدينة كاستر أمام القضاء بتهمة نبش قبور مسلمين وحكمت المحكمة على المتهم بأورو رمزي. وبنفس المدينة حكم على عسكري متقاعد آخر بعشر سنوات بتهمة الاعتداء على مهاجر. ملف حركّه زكري ورافع عنه دون اللجوء لتوكيل محام – الأستاذ زكري الذي يقود ثورة حقيقية ضد التطرّف والعنصرية، مهما كان نوعها وكانت أشكالها، بات اليوم الرجل الأكثر ازعاجا لليمين المتطرف والجماعات والحركات اليهودية، التي تنظر اليه بأنه الرجل الأخطر عليها لأنّه يحرك خطابا متسامحا، نيّرا، يعطي صورة جميلة عن الاسلام والمسلمين. التقته النصر وكان هذا الحوار: النصر: شهدت فرنسا عام 2012 استحقاقين كبيرين، بتنظيم الرئاسيات والتشريعيات. لكن الملاحظ أن الحملتين الانتخابيتين للمرشحين والأحزاب جعلت الاسلام والمسلمين على الخصوص "وقودا" ومادة أساسية للتجمعات والنقاش والتنافس، سياسيا واعلاميا وتجمعاتيا... كيف تقيّمون وتنظرون الى ذلك بصفتكم رئيس المرصد الفرنسي لمواجهة معاداة الاسلام؟ عبد الله زكري: مسلمو فرنسا والمهاجرون من هذه الديانة الكبيرة، عاشوا أوقاتا حرجة وضغطا رهيبا، طوال الحملتين وقبلهما (الرئاسيات والتشريعيات). حيث تمّ تصويرهم وتقديمهم للرأي العام الفرنسي كخطر محدق بالأمن القومي لفرنسا وللفرنسيين. في كل مرّة افتح القنوات التلفزيونية الفرنسية والاذاعات، لا برامج أو حديث سوى على الاسلام والمسلمين. بقطع النظر على الخلط بين العنف والاسلام في التحليل والأذهان وحتى الصحافة المكتوبة لم تتجنّب هذه الحملة وخلط المفاهيم. ولم يتردّد بعض السياسيين في اعتبار المسلمين خطرا ومشكلة في فرنسا. هذه الخطابات لم تتوقف عند المجال "الدعائي" بل ترجمت إلى تصرّفات وأعمال عدائية والتي شهدت ارتفاعا مجنونا خلال العشرة أشهر الأولى من العام الجاري بنسبة ارتفاع تقدر ب (!) %42 مقارنة مع العام الماضي (2011). كما ارتفعت نسبة الترهيب والتهديد إلى 58.1 % بالنسبة إلى التهديدات المباشرة، وإلى 36.9% بالنسبة إلى الاعتداءات. الحملات الانتخابية جعلت من بعض المصطلحات والمفاهيم مادة أساسية ووقودا لاشعال الكراهية والعدائية ضد المسلمين على الخصوص. مفاهيم ومصطلحات من مقاس الحلال والمآذن والبرقع (النقاب) واللائكية والهوية الوطنية الفرنسية والهجرة وأداء الصلوات في الشوارع والأرصفة، والنحر في عيد الأضحى... وبعد هدنة نسبية، عاد بعض رجال السياسة والمتطرفون إلى "حملة الأحقاد"، من خلال الأشرطة السينمائية أو الرسوم المسيئة للرسول وللاسلام وللمسلمين، كرسوم المجلة الساخرة (شارلي ايبدو)، أو استغلال الاعتداء على السفارة الأمريكية ببنغازي لتدعيم الحملة المعادية للاسلام وللمسلمين، والتي انتهت إلى تنظيم مسيرة بشعار "ضد الفاشية الاسلامية".. هذا الخطاب المعادي للاسلام وما صاحبه من أعمال متطرفة وعنصرية، بات يشكل خطرا حقيقيا على المسلمين والمهاجرين في فرنسا التي تقوم على الديمقراطية والحريات والمساواة والمثل السامية للجمهورية وحقوق الانسان... وضعية وواقع صار يهدّد التعايش والتآلف بين الأعراق والديانات والشعوب في فرنسا. النصر: كنت مناضلا في الاتحاد من أجل الحركة الشعبية، حين كان ساركوزي رئيسا للجمهورية، وأقدمتم على تمزيق بطاقة انخراطكم في هذا الحزب أمام كاميرات العالم ومختلف وسائل الاعلام. إلى ماذا كنتم تهدفون من وراء ذلك؟. عبد الله زكري: أردت بهذا التصرّف التعبير عن موقف ادانة إلى بعض السياسيين الذين يتدخلون في الشؤون الدينية والشعائر الاسلامية، في دولة تتدعّى اللائكية وحرية المعتقدات والديانات والرأي والأفكار. هؤلاء السياسيين الذين أدينهم تنكرّوا لقانون 1905 الذي يفصل بين الدين والدولة. سيما ونحن لم نلحظ مثل هذا التدخل في ديانات ومعتقدات أخرى كالكاثوليكية والبرتوستانية واليهودية... حتى وإن كان بعض الحكام المسلمين لميواكبوا الرهانات والتحولاّت التي يشهدها العالم من حَوْلنا ومازالوا يوظّفون الدين في تكالبهم وتنافسهم واقتتالهم من أجل السلطة. تصرّفت بذلك الشكل وبتلك الطريقة من الادانة والاحتجاج، لأننّي لم أتقبّل أن يتبنّى أكثر من ثلث مناضلي الاتحاد من أجل الحركة الشعبية، خطابا عدائيا ومتطرفًا ضد الاسلام والمسلمين فاق أحيانَا خطابات زعماء ومناضلي الجبهة الوطنية (حركة لوبان وأتباعها). وأعتقد بأن زعيم وأكبر مُعادِ للاسلام وللمسلمين هو الأمين العام جان فرانسوا كوبي. هذا الأخير ذهب إلى حدّ المطالبة بالزام الائمة في فرنسا بالقاء خطبهم وصلواتهم باللغة الفرنسية أيام الجمعة. لو كان مطلبَا عاديا لطالب أيضًا بتعميم ذلك وتطبيقه على اليهود والكاثوليكيين (اللاتينية)؟!. النصر: اليمين المتطرف، و"المتحالف" مع اليمين التقليدي، يحّرك بُعبُع الاسلام المتطرف، هل تعتقدون أن هذ التطرّف حقيقة؟ وماهو دور رجال الدين في تنوير الرأي العام ومجابهة هذه السلوكات المتطرفة حتى لا تنعكس سلبا على كافة المسلمين وتضعهم في "خانة واحدة"؟. عبدالله زكري: لا يوجد حقيقة تطرّف اسلامي يهدّد فرنسا أو أوروبا، هذه مغالطة واعتقاد خاطئ. بالتأكيد هناك جماعات توحي بذلك. ولها سلوكات مغالية في الفهم والمفاهيم، لكنّها لا تمثل الإسلام أو المسلمين، كما ليس بوسع هذه الجماعات أو الدّعاة تهديد أمن فرنسا ولا حتى أوروبا. لقد شاهدنا عشرات المسلمين يتظاهرون في شانزيليزي بباريس قبالة السفارة الأمريكية، احتجاجا على عرض ذلكم الفيلم المُسيء للاسلام والرسول، لكن ماذا تمّثل العشرات من حوالي خمسة ملايين مسلم يعيشون في فرنسا، والذين استجابوا لنداء الأئمة ورجال الدين النيّرين المسلمين بعدم الرّد على الاستفزاز؟. الحكّام المسلمون ورجال الفقه والدين عليهم أوّلاً تجاوز خلافاتهم وايجاد تقارب أكبر في مفاهيمهم، ولن يتم ذلك إلا بتحديد مسافاتهم من الحكم والحكام السياسيين. حاليا ليست لهم مصداقية لدى المسلمين في فرنسا وخُصوصًا لدى فئة الشباب. النصر: بحكم وظيفتكم والمنصب الذي تشغلونه، أنتم معنيون بقضية محمد مراح الذي قتل والمتهم باغتيال عسكريين فرنسيين ويهود... هل تعتقدون بأن مراح تصرف من منطلق تطرف وتوجه سلفي عائلي، أم لأن مراح يعكس أزمة الاندماج في المجتمع الفرنسي؟ عبدالله زكري: صحيح أنَ عائلة مراح تُوصف بالسلفية في مُمارسة شعائرها الدينية (التشدّد والمغالاة في اللباس والممارسة للدين الاسلامي)، لكن الأمر لا يتعلق بشخص الابن محمد مراح. ليس جهاديا. يحبّ الحياة ككل شباب فرنسا من المهاجرين وغيرهم، يتردد على أماكن الترفيه والنوادي الليلية. لذلك أعتقد أنّه لم يجدْ مكانه لا في المجتمع ولا في الجمهورية. قد يكون تصرّف من هاجس انتقامي لهذا الوضع أو الأزمة، لكنني أجْزم بأنًه تصرّف بمنطق معزول ولا علاقة له بالقاعدة كما روّج لذلك في الرأي العام الفرنسي. النصر: الرئيس هولاند يريد أن يدرج مشكلة معاداة الأديان والسامية، قضية وطنية لتحسيس الجميع بخطورتها ووجوب تجنبها. وطلبتم منه أن يقوم بتصريح علني واتخاذ موقف ادانة تاريخي للمعادين للاسلام، تسبّب لكم في هجومات وانتقادات من طرف الجماعات اليهودية على الخصوص. هل هذا يعني، في نظركم أن السلطات الفرنسية لا تتخذ أو يقوم بما يكفي لوضع حدّ لتنامي ظاهرة معاداة الاسلام والمسلمين؟ عبدالله زكري: طلبت من الرئيس هولاند أن يتخذ موقفا حازمًا وصارمًا وعلنيا بادانة معاداة الاسلام والمسلمين، على غرار موقفه في تولوز الذي اعتبر بأن التصدّي لمعاداة السامية واجب وطني. نحن نسْعى ونعمل حتى يكون التصدّي لمُعاداة الاسلام واجبًا وطنيًا في فرنسا. مجلس اليهود في فرنسا (الكريف)، لا يعجبه هذا المسعى لأنه يعتقد ويعْمل على الدّوام بأن يجعل اليهود دون غيرهم ضحايا التطرف والعنصرية. هذه مغالطة كبيرة. المسلمون أيضا يعانون الأمرّين من تنامي ظاهرة العداء ضد الاسلام والمسلمين في فرنسا. اذْ لا يجب الكيل بمكيالين، التطرف واحد. وعدم التسامح سلوك واحد ضد أيّة ديانة أو فئة. النصر: مسجد باريس، الذي ظل على الدّوام منارة لكل المسلمين، لم يعد يستقطب الشباب، حتى لا نقول لم يعُد له تأثير فعلي في جلب الجماعات والأتباع، كيف تقرأون ذلك؟ عبدالله زكري: صحيح أن مسجد باريس هو منارة ذات قيمة دينية ومثالية لدى غالبية مسلمي فرنسا وغيرهم. وكل الذين يقصدون فرنسا من رجالات الدين والحكام، غالبا ما يؤدّون صلاة الجمعة على الأقل في هذا المسجد الكبير. لكن شعلتها (هذه المنارة) خفتت، لأن نشاطات المسجد تراجعت وتقلصت لأسباب مختلفة كتنظيم الندوات والمحاضرات والملتقيات... لذلك يجب اعادة النظر في طرق تسيير هذا المسجد. المسجد مطالب بأداء دَوْر أكبر في المجتمع الفرنسي. والقيام بدور أكبر في المجلس الفرنسي للدين الاسلامي التي أصبحت بيد أخوتنا المغاربة (24 منطقة) لا يوجد جزائري واحد يرأس مجلسا محليا في منطقة ما!؟. هذه نتيجة حتمية للانغلاق والركود التي يتخبّط فيها مسجد باريس. أجرى الحوار/ ع-واعلي