لماذا تجنح نخب تتولى خدمة عامة نحو الفساد؟ سؤال تقتضي المرحلة طرحه وقد تحولت قضايا الفساد إلى حكاية يومية يختلط فيها الواقع بالخيال وتلحق فيها الشبهة بكل من يتولى وظيفة عامة، لكأن الفساد تحول إلى صفة "يتحلى" بها كل متقدم إلى منصب! وحتى وإن كان لكل الدول والمجتمعات فسادها ، إلا أن هذه الصفة تكاد تكون لصيقة بالبلدان الإفريقية والعربية، والدول غير الديموقراطية عموما، أين تستأثر أقليات بالمداخيل في غياب المساءلة السياسية والقانونية، و تشكل المساءلة الفرق بين الدول الديموقراطية وغيرها، حيث يدفع المفسدون في الدول الغربية الثمن عند انكشاف أمرهم حين يرتبط الفساد بقضايا داخلية فيما يستفيد النظراء من مزايا المجد الذي توفره المناصب السياسية التي تتم أسطرتها اجتماعيا. وتمتلك النخب القوية في الغرب أدوات حماية المفسدين وقد تحول الفساد نفسه إلى مصلحة عامة كما هو شأن المحافظين الجدد في أمريكا الذين خاضوا حربا عالمية باسم الرب من أجل شركاتهم النفطية، وكذلك فعل طفلهم الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي موّل حملة الرئاسة من أموال الليبيين قبل أن يقتل الآمر بصرف تلك الأموال. وليس خافيا أن أموال الفساد تصب في بنوك غربية وتتحول إلى أسهم في شركات في غرب الحكامة والشفافية، حيث تتم حماية المفسدين والتستر عليهم ما دامت منهوباتهم "صدقة جارية" في هذه البلدان. في الجزائر انفجرت قضايا فساد شغلت الرأي العام، وأطلقت حملات لمكافحة الظاهرة لكن مظاهر الفساد استمرت، في ظل اقتصاد ريعي تحول فيه الدولة اعتمادات ضخمة لإنجاز مشاريع البنى التحتية والخدمات وانعاش حتى مؤسسات مفلسة فضلا عن المشاريع الاجتماعية كمشاريع السكن التي تنجز بدون توقف وبمئات الآلاف من الوحدات، دون إسكان كل الجزائريين. تحرك كتلة كبيرة من الأموال لن يتم دون أن تمتد الأيدي الآثمة إلى الغلة، خصوصا مع العجز الذي تواجهه البلاد في الكوادر البشرية المتمكنة من علوم التسيير وغير المصابة بداء اللصوصية. و ربما ذلك ما يفسر التهافت على المناصب وعلى دخول المجالس المنتخبة، التي أصبح الانتساب إليها استثمارا يدفع صاحبه، مسبقا، أضعاف ما يناله نظريا في سنوات عهدته. وهو ما يعني أن الفساد تحول إلى آلية وبنية لا يتم الالتفات إليها إلا عند انفجار فضائح، بنية يفضحها التدافع على منابع الريع بداعي تولي الخدمة العامة من طرف مقاولين وتجار في وقت يكاد ينقرض فيه السياسيون الذين يمتلكون الافكار والبرامج. والمشكلة أن صورة المفسد تكاد تلصق بالمسؤول دون سواه في وقت لا يتم فيه الانتباه إلى "القاعدة" التي أنجبت المفسد المقبول اجتماعيا والمحبوب والمٌشاد به ما لم يقع. نعم، لقد تمكن الفساد من النسيج الاجتماعي، والحل ليس في سجن جميع الجزائريين ولكن في إعادة بناء الدولة الوطنية على قواعد الاستحقاق التي تكرس في السياسة وتسري على سواها وتتحول إلى عقد اجتماعي يحدث القطيعة مع ثقافة الصراع والتدافع.