أبهر رؤساء وشخصيات وفرنسيين منذ 1946 لا يمر أحد على حي حملاوي «كايرو» سابقا، دون أن تستوقفه الواجهة الخشبية لأقدم محل للخياطة الرفيعة الرجالية و النسائية بقسنطينة و لو بدافع الفضول لتأمل شهادات صاحب المحل الراحل عبد الرحيم السعيد الذي حرص أبناؤه على ترك محله كما هو دون إدخال أي ترميم أو روتوشات عصرية عليه، لما يحتفظ به كل ركن و زاوية بالمكان من ذكريات لخياط مناضل و مبدع أثار إعجاب كبار المصممين الفرنسيين . و لعل أول ما يجذب انتباه الزبائن عند دخول المحل، لوحتان كبيرتان تحملان رسومات تعكس الأناقة و الأزياء التقليدية، هي في الواقع شهادتي تقدير يعود تاريخها إلى 1946 تحصل عليها الخياط الراحل عبد الرحيم السعيد اعترافا من الأكاديمية الدولية للخياطة بباريس بتميّزه و إبداعه. و قد ورث ابنه زين الدين السعيد عنه أسرار الحرفة التي لا زال يمارسها و يحاول الحفاظ عليها قدر المستطاع في ظل رواج السلع الجاهزة و تراجع الطلب و الترّدد على ورشات الخياطة الرجالية الرفيعة كما قال الخياط زين الدين الذي أسر بأن الحرفة لم تعد بذات الانتعاش التي كانت عليه في عهد والده، مسترجعا ذكريات عن أهم الشخصيات التي كانت تترّدد على محلهم، بما فيهم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي لا زال صاحب المحل يحتفظ بنموذج تصميم و مقاس إحدى البدل التي صممت خصيصا له. و عن كيفية احترافه مهنة الخياطة قال زين الدين بأن الفضل يعود لوالده الذي غرس فيه حب هذه الحرفة، لما كان يتمتع به من براعة ميّزته عن باقي الخياطين، مستعيدا صورا و مواقف قال أنها مبعث فخر عن والد نجح في التوفيق بين النضال و مهنة الخياطة التي بدأها مع أخواله بمدينة وهران أين كان المصمم العالمي الفرنسي إيف سان لوران في الماضي يقف لساعات يتأمل إبداعهم. كما تلقى والده عروض عمل مغرية من أكبر دور الخياطة الرفيعة بفرنسا لكن ارتباطاته داخل الوطن و غيرته على الإنتاج الوطني جعلته يرفض العمل بالخارج و الاكتفاء بالعمل داخل محله الصغير بقسنطينة و الذي فتحه في بداية خمسينيات القرن الماضي بعد تعلمه المهنة بوهران. و ذكر ابن ثان للراحل عبد الرحيم السعيد بأن والده كان أول من صمم جبة المحامين بقسنطينة ، كما صمم بدلات إطارات الخطوط الجوية الجزائرية، و غيرها من التصاميم التي نالت إعجاب زبائنه و وسعت قائمة زبائنه الأوفياء الذي ما زال عدد كبير منهم يترددون على المحل و يطلبون تصاميم كلاسيكية راقية، يحرص الابن زين الدين السعيد على العمل على احترام طريقة والده في التعامل مع الزبائن، حيث وجدناه بصدد أخذ مقاس أحد الزبائن الذي قال أنه تعوّد على خياطة بدله الكلاسيكية عند عمي عبد الرحيم الذي رحل عن الدنيا منذ ثلاث سنوات. و لا زال المحل كما كان عليه منذ 1956بديكوره الخشبي القديم، و قاعة القياس أو غرفة الملابس الصغيرة بالإضافة إلى ركن علوي خاص بماكينات الخياطة، لكن أكثر ما يثير الانتباه هي صور التصاميم الكلاسيكية التي تزّين جدران المحل و كذا الأوراق و البطاقات البريدية و بطاقات المعلومات التي يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من نصف قرن، حافظ عليها صاحب المحل كذكرى من والده الذي كان دائما يذكرهم بأن مهنة الخياطة ليست بالمهنة العادية، بل واحدة من أبرز المهن اليدوية التي كبروا عليها و فتحت بيوتا و أعالت آلاف الأسر، لكنها اليوم فقدت مكانتها في ظل انتشار و رواج السلع الجاهزة التي ينافس سعرها ثمن التصميم و التفصيل و هو سر تخلي الكثير من الخياطين عن الحرفة و اختيار حرف و مهن أخرى.