أشعار قرمزية للعرب الذين عرفوا مالك حداد قبل قراءته احتفت مجلة الدوحة القطرية بالكاتب و الشاعر الجزائري الشهير مالك حداد و أصدرت في شهر جانفي الجاري كتابا ضم مجموعة من الترجمات لأشعاره و نصوصا نثرية من كتابات "واهب الغزالة" قام بترجمتها شرف الدين شكري الذي قال في مقدمته للكتاب أنه عايش منذ أكثر من عقدين عوالم مالك حداد، و عرف أن مشكلة مالك حداد لم تكن مع اللغة كما فهمها الكثير من النقاد و المتتبعين لأدب الروائي الشاعر ابن قسنطينة "مشكلة مالك كانت دوما مع الفن... الهوية التي أنشدها دائما في كتاباته". يؤكد المترجم أيضا أن مالك حداد كان التعبير البارز على رفض الحرب و التي يراها فقدان للمنطق و يصفها بأنها آخر حل لا إنساني لقضية إنسانية ملحة...؟ و عادلة هي قضية الشعب الجزائري تحت سلطة الاستعمار الفرنسي. و بدأ الكتاب بمقدمة "الشقاء في خطر" حينما يتحدى مالك حداد على لسان فرنسي عجوز لغة البنادق، و يرفض أن يحارب الإنسان أخاه الإنسان تحت أي ذريعة. كما تطرق المترجم إلى خطاب الهوية عند مالك حداد و قال أنه "كان أقوى هدف اشتغل لأجله و عليه كان محور كل أعماله، ملاحظا مفارقة أن فلسفة بناء الذات التي رباه والده عليها و التي رفعت من شأن فرنسا ثقافيا قبل أن تمتد إلى الصروح الحضارية هي نفسها قوة تدمير الوجه العنيف في الثقافة التنويرية التي تخفي الكثير من التعالي و من العنصرية في السلوك البراني". و في "الأصفار تدور حول نفسها" كانت العبارات القوية لمالك حداد على لسان مصطفى كاتب بقوله "تمكنا من مقاومة "بيجو" و لم نستطع أن نفعل ذلك مع "موليير" بيانا قويا على موقف مالك حداد من اللغة و الثقافة الفرنسية المنتصرة القوية التي تغلغلت في النفوس المتعطشة للتنوير و للثقافة. يقول مالك حداد في هذا الفصل المترجم بعد مجموعة أشعار من كتاب الدوحة في الصفحة 105 "تفصلني اللغة الفرنسية عن موطني، أكثر مما يفعله بي البحر الأبيض المتوسط،. و بمجرد أن أهم بالكتابة بالعربية، يبزغ حاجز رغما عني بيني و بين قرائي: الأمية". و لكن بعد عقود لم تعد الأمية حاجزا بين الكاتب و قراء العربية الذين تعرف أغلبهم عليه من خلال روايات أحلام مستغانمي، لكن شرف قراءتهم له لم يحصل إلا في حالات قليلة و من بينها ما قام به شرف الدين شكري و طبعته مجلة الدوحة القطرية. و في ذات "المانيفستو" الحدادي ضد لغة فرنسا يخاطب الكاتب كاتبين كبيرين جزائريين هما كاتب ياسين و محمد ديب يقول للأول "أقاربي الذين يسكنون الجبل المعلق، لم يحلوا لغز تذكارك، يا كاتب ياسين :"نجمة" ( التي هي إحدى روائع أدب ما بعد الحرب العالمية الثانية في الجزائر) و يخاطب الثاني "عجائز "دار السبيطار" لم يتمكنوا من أن يتعرفوا على أنفسهم في دارك الكبيرة يا عزيزي، يا نساج اليومي الملعون محمد ديب. و سرد مالك حداد في دوران الأصفار حول نفسها (الحلقة المفرغة) أسماء مارسيل موسى، مالك واري، مولود فرعون، جان سيناك ، مولود معمري، جيل روا،جان عمروش، صديقه روجي كوريل، روبليه على مسامعهم و على حسابهم كلمات متحدث باسم "فرنسا - الحرة" و هنا ينفتح قوس عن المغزى من العبارة فرنسا الحرة هل هي حرة من خلال ثقافة التحرر و التنوير التي جاءت بها الثورة الفرنسية سنة 1789 أم فرنسا الحرة التي قادت مقاومة الاحتلال النازي لها وراء الجنرال دوغول، في مواجهة عمالة الماريشال بيتان. و يقول مالك حداد لزملائه الكتاب الجزائريين بالفرنسية أنه يمكنه مصارحتهم و إخبارهم بكل احترام و بكل محبة أن الجزائر تقدم لهم أسلحة لعزلتهم. و يحيي مالك حداد من يصفهم بأيتام القراء الحقيقيين ليكشف لهم أن النداء الداخلي للصحاري هو انجاب التأملات الواسعة و الغزلان. و يقود التأمل إلى قرار مالك حداد المعلن لأصدقائه أيتام القراء "سوف نهجر المنفى ( اللغة الفرنسية منفاي) ليس من أجل الحج، ليس حتى من أجل العودة إلى الأصول، لأنا أبدا لم نهجر الأصول، لأن النملة و الزيزان كلها مكيفة، لأن الشجرة، بحاجة الى جذورها و الى جذور أرضها، لأن الوطن محطتنا الإبتدائية، منضبط و فخور بحقيقته، فهو ظاهرة بيولوجية خالصة". و يعترف مالك حداد أن الذين نكتب لهم في المقام الأول ( من الجزائريين) لا يقرأوننا و على الأرجح لن يقرأونا أبدا، فهم يجهلون حتى وجودنا ذاته بنسبة 95 بالمئة ، هؤلاء القراء و بإضافة حرف الى أسمائهم تحولوا الى "فقراء" حفاري قبور مباركين من طرف كل الإمبرياليات، هؤلاء القراء الذين قايضوا المحراث بعقب البندقية فأذهلوا العالم كله، و ارغموا الجنرال دوغول ذاته على احترامهم، هؤلاء القراء الذين يحيون و لا يكتبون التاريخ –فلا نستطيع القيام بشيئين في الوقت نفسه- هم سبب وجودنا ذاته السبب الذي من أجله نكتب الدافع و هدف الثورة الجزائرية: الفلاحون. ينقل كاتب توطئة الكتاب عن رفقاء مالك حداد أنه كان أيام حرب 1967 العربية الاسرائلية بالغ التوتر يتهم وكالتي الانباء الفرنسية و "رويترز" بالتحيز في نقلهما لوقائع الحرب و تأسف صاحب المقدمة لأن مالك حداد أخذه الرئيس السابق هواري بومدين إلى الجزائر العاصمة و أبعدته بفعل ذلك مهامه في إدارة الثقافة على إنتاج الفعل الثقافي و لكن ترجمة شرف الدين شكري للنصوص الشعرية و النثرية الى العربية سيعيد "الأمير البربري" إلى مكانه الحقيقي و هؤلاء القراء بالعربية سيطرقون بابه بكل قوة لأنهم يعرفون انه لا زال يقيم هنا. ع.شابي من سيكتب مثل مالك؟ شرف الدين شكري يعدُّ خطابُ الهويّة في أدب مالك، أقوى هدف اشتغل لأجله ومحْوَرَ كل أعماله حوله، لعلمه بأن فلسفة بناء الذات التي رباه والده عليها، والتي رفعَت من شأن فرنسا ثقافيا قبل أن تمتدّ إلى الصروح الحضارية، هي نفسها قوّة تدمير الوجه العنيف في الثقافة التنويرية التي تخفي الكثير من التعالي ومن العنصرية في السلوك البرّاني. وهي النقطة التي يستدلُّ بها عبر عبارات قوية جدا جاءت على لسان مصطفى كاتب في « الأصفار تدور حول نفسها»: « تمكنّا من مقاومة «بيجو»، ولم نستطع أن نفعل ذلك مع «موليير». كانت لغة السّلاح التي أشهرها الجزائريون، هي لغة التعبير عن تفاقم اليأس ليس إلاّ.انتفَت حينها كل صنوف الصّبر. تراكمتْ جثَثُ المطالَبَة بالمساواة خارج كلِّ أنواع الاحتمال. صار كلُّ شيء يتأرجح بين الشاعر والعسكري: أي بين الحياة والموت. صار الشاعر عسكريا في انتمائه إلى حلم التحرير والمِراس السياسي عبر نصوصه، رغم إدراكه لفداحة الموقف، وصار العسكريُّ عسكريا متشددا بلا شِعْر؛ هذا ما سوف يطفح كالبثور على حضارة القتل التي مارسها الاستعمار، في «الشقاء»:». وحين يمضي جُنديٌّ للقتال، فليس من حقه أن يُغنّي. ولتحترم الأزهارَ، ولا تضَعْها على فوّهة بندقيّتكَ». حينها، سيؤكد مالك والبندقية في حبره، بأن الحبّ يظلّ هو المرافق الأبدي للكاتب أينما كان، ويطالبه،إن هو تخلى عن الحبّ،بأن يتخلى معه أيضا عن الكتابة:» أنتَ تكتُبْ لأنّك تحبّ. إذا لم تكن كذلك فضع القلم..». هذه هي قمّة الصّراع الحضاري التي لا يريد المستعمر أن تتقن «الأندجينا» استعمال مفاتيحها. لذلك، سوف يدخل مالك حداد العملَ السّياسي السريّ، مما سيدفع بالبوليس السياسي إلى ملاحقته، كي تحطّ الفجيعة إلى الأبد في قلب «حمامة» والدته فجر ذلك اليوم، ساعة مرور بائع اللّبن ببيته في أعالي «الفوبور لاميه». سيغادر حينها أيضا صفوف دراسةَ الحقوق في إيكس أون بروفانس، كي يتسكع بألمه مع كاتب ياسين ومحمد أسياخم في حقول «لا كمارغ»، التي سترافقه رقصاتها حتى هضاب الجزائر وتلالها المشتعلة غضبا. فينتصر الكاتب فيه كمحامٍ، ويخيب المحامي فيه إلى الأبد. من سيكتب حينها أجمل من مالك حدّاد عن غضب الحقول، عن الزُّرُع وعن النباتات البريّة، عن الدّلب وعن الزّعتر وعن العشرينيين الذين لا يرون في العاصمة إلاّ مقاهيها ومحافلها التي لا تنام في العيون المتطرّفة الزرقاء ومن والاهم من الموبوئين؟، من سيكتب أجمل من مالك حدَّاد عن فيلا سيزيني التي شهِدَت آخر أيام الرجل الشُّجاع الذي أمرَ شعبه بأن يُبعد الثورة، حتى بعد استقلال بلاده أبدا عن الصالونات إلى شوارع الفقراء؟، من سيكتب عن أمطار الدّم التي هطلت على أعالي «النمامشة» التي لم يحسن العسكر المستعمر أبدا نطقها صحيحة، فحوّلوا غضبهم إلى حمّامات الاستنطاق التي تفنّنوا في استيلاد الاعتراف فيها من المسلوبين؟. من سيكتب مثل مالك حدّاد عن أجمل امرأة تغازلها اللّغة ذاتها فتضوّعها باسم «جميلة»، وتعِدُها بطفل التعذيب الذي لا يموت؟...من ذا سيكتب عن أشياءَ كثيرة تنام في صفحات هذا الديوان المتعب؟ من سيكتب مثل مالك حدّاد حينها عن فسحات الحرية التي أدرك بأنها لا تعدّ بالمسافات، بقدر ما تعدّ ببُعد الأحاسيس، كما كتب في»الأصفار» التي «تدور حول نفسها» بين جنسين بشريين يفرقهما الإحساس المقيت بالتعالي؟ هذا المقال، مقطع من مقدمة الكاتب للترجمة