غاب أنسي الحاج في هدوء. لم يثر رحيله الصخب الذي يثيره الشعراء "الجماهيريون". مؤمنون به وأصدقاء استعانوا بلغته على وصفه في الغياب وفرشوا له الغيوم المناسبة، هو الذي عاش كما شاء ومات كما توقّع. لم يُذكر اسمه كثيرا في كراسات الدارسين الذين تعوّدوا على تصنيف الشعر العربي وتبويب أسمائه. وربما ذُكر عرضا عند التطرق إلى مجلة شعر ودورها باعتباره ثالث ثلاثة. وقطعا فإن ذلك لن ينل من مكانة هذا الشاعر الذي جاء باكرا وفعل مالم يفعل غيره في العربية، ففي الوقت الذي كان العرب يستمتعون فيه بالطقاطيق والأغاني الرومنسية الرديئة ظهر أنسي شاعرا ببلاغته الخاصة وقاموسه الرهيب وانتباهه المدهش إلى العالم ، تناسلت من لغته أسماء سقطت وأخرى ثبتت وظل أنسي في ذروة الهيجان مذ ألقى ب "لن" إلى أن افترش الغيمة البيضاء التي زرعها بيديه في منتصف الهاوية ليخدع الموت المباغت ويعود منه. تعالى أنسي عن العصبيات والعنصريات العربية و تعالى عن الطوائف و انتهى مُتّهما و مُلاما، لأنه لم يصدّق "الربيع العربي" كما فعل غيره من الشعراء الذين يستمدّون ثقافتهم السياسية من الفضائيات والجرائد. لم يكن أنسي غيره. كان هو حيثما كان. حفر مجراه بسكينته الحادة ومضى فيه. و من الصعب على رجل بهذه الهوية أن ينتمي إلى الزمن العربي حيث يلبس الأفراد طيلة الحياة أكفانا معدة سلفا. وعزاؤه أنه كان يعرف فبنى الأسوار وانصرف إلى ما يراه عدّته "قلب أسود بالوحشة". غاب أنسي الحاج في هدوء. كبر أطفاله في اللغة. كبرت نساؤه الشقيات. كبر صمته. كبرت عزلته. ثقلت أغصانه بثماره، فقرّر أن ينزل كالرعاة من الهضبة. غسل الشتاء ندمه فمدّ يده إلى يد الرسولة وراح يقتفي أثر صوتها وهي تعده ببيت أبيض بعيد: بيتك ليس هنا تقول فيركض حتى يتوارى. أخذ الشاعر حظه مما أحب. فلننتبه إليه غائبا. و ليتعلم الشعراء من سيرته كيف يختفي الشاعر الحقيقي ليعيش.