يهود قسنطينة لا يزالون محافظين على تراثها وماسياس يستعمل المدينة للعودة إلى الأضواء التقينا الفنان مالك الشهير باسم مالك الفقيرات ، بعد عودته الأسبوع الماضي من فرنسا أين كانت له نشاطات فنية في عدة مدن فرنسية ، اللقاء كان في بيته بحي سيدي الجليس العتيق وسط قسنطينة ، في بيت أشبه بالمتحف على صغره ، وهو الوكر الذي يحن إليه ولا يجد الراحة إلا بين أحضانه ، يضم ذكرياته و تزيينه بصور رائدات الفن الذي وهب له حياته ، لا يزال يسمع رنين أصواتهن فيجافي الكرى أهدابه و يعانق وحدته لما يستبد به الأرق ،فيسلم جسده النحيل للراحة في الساعات الأولى للصباح إلى غاية الضحى وهي ساعة لقائنا به وبشخصيته المميزة التي أبدعت في فن الفقيرات الذي تربع على عرشه دون منافس ومن يصدح بذات النغم ومالك بالمدينة. تقمصت هذه الشخصية وفاء لرائداته اللائي تعلمت على أيديهن في مطبخه الصغير أعد إبريق قهوة تقليدية لأنه لا يطيق "الزفت" على حد تعبيره الذي يقدم في المقاهي ، رحب بنا وكان رفقة جاره وابن حيه سي حسين بتشين ، كانت الصور التي غطت الجدار متنوعة انتظمت إطاراتها وفق التسلسل الزمني لتراث الفقيرات ، وأخرى عائلية وللكثير من حبيباته زينت غرفة الاستقبال الملحقة بالمطبخ و هما في الواقع عبارة عن غرفة واحدة استعمل مدخلها للغرض الأول ، وعمقها للهدف الثاني ، اكتظت فوق رفوفه آلات فنية غلب عليها الإيقاع من دفوف وطار تعدد قطرها ولكل واحدة تاريخ ، ودور في الغناء الذي تخصص فيه والذي كان يعتمد أساسا على آلات الإيقاع. عندما اطمأن لنا أوضح لنا أسباب اختياره لذات النغمة وتأسيسه لفرقة مالك الفقيرات ، التي يعتبرها آخر حلقة في تاريخ هذا الفن الذي ترعرع بين أحضانه وهو ابن الخمس سنوات و قضى فيه 42 سنة،مؤكدا بأنه وبدافع الوفاء لرائداته و معلماته و الرغبة في الحفاظ على تراث يعود إلى قرون تقمص ذات الشخصية للحفاظ على تراث يعود إلى قرون من الزمن و يضيف:" أنا أبذل جهودا كبيرة لأحافظ على تراث قسنطينة، التي عقّها أبناؤها بعد أن أصبح كبار فنانيها يتحكم فيهم أبناؤهم و تحولوا إلى ألعوبة في أيديهم". مالك قال أن البعض يلومه على استعمال و دمج آلات حديثة في فن الفقيرات الذي يعتمد أساسا على آلات الإيقاع بعد أن أهمله أبناء المدينة الذين خانوا الأمانة ولم يحافظوا على تراثهم، ففقدوا مكانتهم وتوازنهم. فسر ذلك بعدم الاحترام الذي أصبح يعانيه الفنان الأصيل الذي أصبح يخاف المفاجآت ،بعد أن ظهرت موضة جديدة في الأعراس التي يحضر أصحابها عدة فرق في العرس الواحد منها ال"ديسك جوكي" الذي شبه أصحابه ب"قردة خراطة في التهريج" ، وهذا ما لم يصادفه في أعراس عائلات جزائرية ومغربية أحياها في كل من فرنسا وبلجيكا. مالك قال: "أصبحنا نخاف من هذه المفاجآت و نحن نحيي الأفراح ولا نعلم ما ينتظرنا ليحط من قيمتنا، فأدخلنا الآلات الحديثة مرغمين لا مخيرين". فرق العيساوة تخلت عن دورها وأصبحت تؤدي فن الفقيرات يرى مالك بأن فرق العيساوة تخلت عن دورها بالغناء للرجال ، وتقمصت دور الفقيرات والبنوتات اللائي يصدحن للنساء وهذا تشويه للتراث وتجاوز لعادات المدينة ، بعد أن أصبحت فرق رجالية على حد تعبيره تقتحم حرمة الحريم ،مضيفا :"هو دور الفن الذي أريد المحافظة عليه والذي لا تزال العائلات العريقة تلتزم به ، في مناسباتها العائلية و أفراحها فلا يقحم الرجال وسط النساء". و أكد :"الورثة الحقيقيون للعيساوة هم فرق كل من الشيخ أحمد بن خلاف وزين الدين بن عبد الله وعزوز بوعبيد و على مقتحمي الساحة الفنية التي تتسع للجميع التقيد بأعراف وتقاليد المدينة وبما يعرف بالتلمود . العيساوة والإخوان الذين أعرفهم رحلوا مثل الشيخ الكبير سي محمد بن جلول والشيخ بلقاسم وكذا الخماسة الكبار من أمثال عمي بداوي وبغلول، لا ينبغي اتخاذ هذا التراث مهنة و مصدر للعيش ما لم تتوفر الموهبة و الشغف قبل كل شيء .هذا ما جعلني أضحي بمسار حياتي وأترك تعليمي الذي كنت من المتفوقين جدا فيه و أتفرغ للفن على الذين اتخذوا الفن وسيلة عيش تركه لأصحابه حفاظا عليه من التحريف والتزييف خوفا من أن يفقد أصوله ، ويأتي يوم لا نجد فيه فنانا أصيلا."مضيفا بأن هذه المعطيات جعلته يطالب بحماية الفن من العابثين وعدم تشجيع الرداءة التي طفت على السطح ، بعد أن حرم القائمون على الفن أصحاب المواهب الحقيقة من خدمة الفن الأصيل بتجاهلهم ،وعدم دعوتهم في المهرجانات والمواسم التي تحتضنها المدينة. سيأتي يوم لا نجد فيه فنانا أصيلا بالمدينة مالك الفقيرات قال أنه لا يدق الأبواب ليجود عليه القائمون على الثقافة بحفلة ، لأن فنه ومكانته تغنيانه عن ذلك فهو كما قال علم في المدينة وخارجها ويأسف لجحود مدينته وتنكرها له وقد كرس حياته من أجل الحفاظ على تاريخها وتراثها وفنها. متسائلا عن سر تجاهله والمدينة تستعد لتصبح عاصمة للثقافة العربية ، على الرغم من أن الفقيرات هن من صنعن فنا مميزا لا يتواجد إلا في ثلاث مدن هي قسنطينةوعنابة وسوق أهراس ، وعلى الرغم من هذا فمالك اسمه دائما مشطوب من قائمة المدعوين لإحياء أعراس المدينة التي لا يستطيع الحياة إلا بين أحضانها. وفيما يخص إقدام الوزارة مؤخرا على الاهتمام بالفنانين و إصدار قانون التقاعد ليحميهم ، ثمن ذلك قائلا:» كل ما سمعناه لا يزال مجرد كلام ، ونحن ننتظر التطبيق للحد من معاناة الكثير من الفنانين الذين رمى بهم شغفهم بالفن في زوايا المجتمع بعد أن تقدم بهم السن من أمثال العربي بلبجاوي الذي يعاني في صمت». في ما يخص علاقة اليهود ممن كانوا يعيشون بين أحضان قسنطينة بالمالوف وغيره من طبوع قسنطينة، قال بأنهم لا يزالون يحافظون عليها بحذافيرها دون تحريف أو تزييف وبلغتها الأصلية ، العربية، لأنه لا يوجد نص غنائي في المالوف بالعبرية ،وريمون وسيلفا وغيرهم كانوا مجرد مغنين موهوبين. أما طبوع قسنطينة فهي عربية و قد نقل يهود قسنطينة المالوف بنسخته الأصلية أثناء مغادرتهم المدينة .و أونريكو ماسياس حسبه يتخذ من قضية حقه في العودة خرجات إعلامية يلجأ إليها كلما تناسته وسائل الإعلام ليعود بها إلى الأضواء التي أفلت من حوله ،و لأن ابن المدينة ينبغي ألا يتنكر لمسقط رأسه الذي يجب أن يحافظ عليه. مسلسل ذاكرة الجسد لم يكن قيمة مضافة في مساري الفني «دوري في مسلسل ذاكرة الجسد كان مجرد إحياء حفل قسنطيني ، تقليدي تحيي فيه فرقة الفقيرات سهرة عائلية خاصة تقيدا بدور الفن الذي أتخصص فيه».، مضيفا بأن أحد معارفه ذكر اسمه بعد أن علم من القائمين على تصوير المسلسل بأنهم يبحثون عمن يحيي عرسا أصيلا و استطرد قائلا:»كانت سهرة رائعة ولكن لم تكن قيمة مضافة في مساري الفني».إلا أن الكثير من أصدقائه يذكرون له بأن هذا العمل يعرض حاليا في قنوات عربية عديدة. و لا يزال مالك يحب فن مدينته ولا يفوت فرصة لحضور الحفلات التي تنظم بها على الرغم من أنه لا يتلقى دعوات إليها ، و يشعر بأنه في «ذاكرة الجسد» مثل عاصمة الشرق بفن متميز تميز شخصيته. تشكل فرق الفقيرات في قسنطينة يعود إلى القرن الثامن عشر عن أصل كلمة "فقيرات" قال بأنها تصغير لكلمة "فرقة" وقد غلب عليها اللحن المحلي في التصغير والدلال وجمعها "فرق" وأول فرقة قسنطينية حسبه في هذا المجال هي الجوق الذي كونته الرايسة فاطمة بغلي والمسماة لا زهيرة وبدأت الفن حسب ما تناهى إلى مسامعه قبل بناء جسور قسنطينة والتي أخذ عنها الفن وهو في الخامسة من عمره بعد أن امتد بها العمر لأكثر من 100 سنة وهي أخت بابا عبيد عازف الناي والزرنة وشيخ المالوف وهو أستاذ ومعلم الفرقاني. وشيوخ المالوف كما أكد كلهم عرب وليسوا يهودا كما يشاع عند البعض وكانوا مجرد جيران في الحيين اليهودي الشارع وسيدي الجليس المتجاورين ، ثم خلفتها أختها الحاجة زلوخة ثم بعض أفراد العائلة كعائلة المرحومة زهور ، وفي نفس العصر كان هناك جوق ثان يسمى " البقرات " الذي كان يضم الأختين لا قرمية ولا طاطة وكانت أمهما لا زهيرة تغني في السباط في السويقة وهي من عائلة غنية ومعروفة بالمالوف وتسمى " قايد الرحبة ".هذا إلى جانب جوق الحاجة "قمرة بلفرطاس" ،وبالموازاة مع ذلك ظهرت فرق "البنوتات " ممثلة في جوق بنت العيساوي وورثته زهور بنت الفرقاني التي أخذ عنها مالك الصوت . عن الفرق بين الفقيرات والبنوتات،أوضح بأن الفقيرات يعزفن على 5 دفوف وطار كبير فيما تستعمل البنوتات 3طارات ودربوكة. وأول بنوتة هي لا خدوجة بنت العيساوي وكانت تسكن زنقة الدرداف. وبعدها جاء جوق مالك الذي بدأ الفن في سن 14 سنة ، و عاصر بنوتات زهور الفرقاني وجوق الكحلة ثم ظهرت فرق أخرى ورثت الفن إضافة إلى الفقيرات اللواتي توفين جميعا .ويعتبر مالك نفسه الوريث الوحيد ل"معلماته" فهو أخذ عن فاطمة قارة بغلي الصنعة وعن زهور النغمة وطريقة الأداء مشيرا إلى أن صوتها يمتاز بالرقة مع الحفاظ على الميزان. لا وجود لقاسم مشترك بين فقيرات قسنطينةوعنابة نفى مالك وجود قاسم مشترك بين فقيرات قسنطينةوعنابة .فقيرات قسنطينة كما أكد يغنين بشكل خفيف، بينما فقيرات عنابة يغنين اللون الثقيل. موضحا بأن الفقيرات يغنين فقط المديح للمولى عز وجل وللرسول الكريم إضافة إلى بعض الأولياء الصالحين ،بينما تغني البنوتات بالإضافة إلى المدح بعض الأجزاء من المحجوز ويميل صوتهن إلى المالوف لأن في صوتهن "جر للكلام"على حد تعبيره . يعلق مالك في متحف صوره بالإضافة إلى رائدات الغناء في شعبتي الفقيرات و البنوتات ،صورتي إبراهيم وهارون وبمجرد سؤالنا عن سر احتفاظه بهما،رأيت في عينيه دموعا حاول عبثا كبتها.رأيت فيه الطفولة التي تتأثر وتبكي لمجرد ذكر الحوادث المؤلمة.قال بهذا الخصوص بأن هذه الجريمة سرقت من عينيه النوم لشهور طويلة و في آخر حفلة له والتي وافقت ذكرى مقتل الطفلين تذكر وهو يؤدي وصلته الجريمة الشنعاء التي يحفظ تاريخ حدوثها 9 مارس من السنة الماضية، انهمرت دموعه وطلب من الحاضرين الترحم على روحيهما فبكت القاعة كلها و سالت الدموع دون أن تغسل الغصة التي في حلقه على طريقة أحمد شوقي الذي قال أن حبة بر أحدثت في صدره غصة لم تمحها مياه النيل ولا مياه دجلة والجريمة هذه يقول لا يخف من وقعها سوى القصاص. ودعنا مالك وقد تركناه مع ضيفتيه وتخلل حديثنا الكثير من الدق على الأبواب ورنين الهواتف،مما حال دون تسجيل بعض التفاصيل في جلسة تحدث لنا فيها بكل عفوية وبشغف المحب للفن الذي منحه 42 سنة من عمره، فمالك شخصية مميزة رغم أنها مثيرة للجدل بالشعبة التي انفرد في التخصص فيها.