انتصرت على انريكو ماسياس وفنانين يهود في مسابقة للمالوف سنة 1961 لست وصوليا ولن أتاجر بالفن الذي أصبح حكرا على عائلة واحدة رحماني صالح ابن قسنطينة وأحد أبرز وجوه فن المالوف فيها،غاب عن الساحة الفنية منذ حوالي ثلاثة عقود أطل خلالها في مناسبات محدودة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة ، كان آخرها خلال تكريم الحاج محمد الطاهر الفرقاني منذ ثلاث سنين ، عاد بعدها إلى الظل ونسيه من جديد القائمون عن الفن في مدينته التي تمددت أطرافها ، مما جعلنا نقتفي أثره لمدة شهر ، فلم نعثر له على مكان إقامته ، وقد انتقل من وسط المدينة التي ترعرع بين أحضانها إلى أعالي منطقة زواغي التي اتسعت مبانيها ، مما صعب مهمتنا في البحث عنه لنعيده إلى الأضواء ونذكر به أبناء مدينته ، وقد كان أحد صناع الفرحة فيها بعد أن وقفنا على حقيقة أن كثيرا ممن تحدثنا إليهم عنه لا يعرفونه من جيل ما بعد الاستقلال. ص رضوان انطلقنا في رحلة البحث عنه من بيت أبيه في حي “البيكاسو” القريب من المستشفى الجامعي ابن باديس ، حيث أخبرنا بعض من التقينا بهم بأنه كثير التردد على مقهى يقع في محطة نقل المسافرين الغربية ، عرفنا بأنه لم يعد يرتاده منذ مدة . وقد حاولنا الحصول على رقم هاتفه دون جدوى، ولكن إصرارنا على مقابلة فنان المالوف الذي قيل لنا أنه يرفض منذ مدة الخروج إلى الأضواء والحديث إلي الصحافة جعلنا نعيد الكرة حتى تمكنا من الوصول إليه ونحن نحمل له في أذهاننا صورة غير واضحة كانت تعرض في التلفزيون زمن الأبيض والأسود ، و نتذكر حينما كنا تلاميذ نخرج للوقوف تحية للرؤساء الذين كانوا يزرون المدينة و نقف في الشارع الذي يقابل بيت الفنان ، فنحرص على رؤيته وكان الكل يعرف من هو رحماني صالح الذي لم نتمكن من الوصول إليه اليوم علي الرغم من أنه مازال وفيا لمدينته يحفر في ذاكرتها محاولا كتابة تاريخ فنها بعد أن عزله القائمون عليه ، لأنه كما قال لنا لا يطرق الأبواب من أجل أن يحظى بحفل وقد اتخذ من الفن هواية بدل من تكون وسيلة كسب عملا بوصية والده وما وقف عليه من حال مشايخه و رفاقه الذين اتخذوه حرفة فكانت آخر أيامهم بؤسا وشقاء وفقرا مدقعا بعد أن تم الاستغناء عن خدماتهم وظهر في الساحة الفنية من الشباب من سرق الأضواء منهم فكانت نهايتهم في الظل مأساوية. وأخيرا وصلنا صوته من الجهة الأخرى للهاتف وقد حدد لنا موعدا في أحد مقاهي باب القنطرة العتيق القريب من بيت عائلته ، فقلنا له كيف سنتعرف عليك ونحن لم نرك منذ عقود وكانت له صورة واحدة مازالت محفورة في الذاكرة لشاب يعزف على آلة وترية تغطي عينيه نظارة سوداء ، فقال في صوت كله حيوية «مازلت كما أنا غزا فقط الشيب رأسي فقط» فحقيقة كان كما وصف فلم نجد صعوبة في التعرف عليه ولا في الحديث إلى الفنان الذي اشتهر بأغنية «من فرق غزالي»و»دقوني» و»من جات فرقتك في بالي « بداية الستينات وهي أغان من التراث منذ قرون إضافة إلى «ظالمة» التي أكد لنا بأنه غناها من قبل الشيخ حمادة بالقصبة و»القلال». فرحماني صالح كان أحد أبرز وجوه أغنية المالوف في قسنطينة إلى جانب الحاج الفرقاني وعبد المومن بن طبال و الزواوي مخلوف إلى غاية 1982 بعد وفاة أخيه انعزل وابتعد عن الأضواء لأنه كما قال لا يدق على الأبواب ليحظى بفرصة غناء بطرق ملتوية فتم تهميشه ولم يعد يظهر على الساحة الفنية التي غزتها وجوه جديدة سيطرت على الفن في عاصمة الفن ولم يعد مصيره في يد أصحاب الصنعة فاحتكرته عائلة واحدة حسبه وهذا ما همش الكثير منهم، مشيرا إلى أنه «لا يوجد أحد دمه أزرق». " ابن الفأر يأتي حفار " بهذه الكلمات أفضى شيخ المالوف لنا عن مكنونات صدره التي لم يبح بآهاتها من قبل لأنه لا أحد طرق بابه أو بحث عنه بعد أن اختار ترك الساحة الفنية بمحض إرادته وقد ضاقت ولم تعد تسع من اتخذ الفن هواية وليس من أجل الخبز آخذا بوصية أبيه الفنان الذي أخذ عنه الصنعة لأنه وقف في شبابه على حقيقة هي أن كل من جعل الفن في الجزائر حرفة عاش معدما ومات في ظروف مزرية كما هو الشأن للشيخين الخوجة بن جلول قديما وحسان العنابي أخيرا و آخرون يعيشون ظروفا جد صعبة بل مزرية لأن الفنان الغير مؤمن و الذي لا يحصل على تقاعد في غياب قانون أساسي يحميه من عاديات الأيام نهايته يعرفها أهل الفن. وهذا ما جعله هاويا وعاشقا للفن فنأى بنفسه عن اتخاذه وسيلة للعيش كما أوصاه والده ، وهو ما فرضه على أبنائه الذين يجيدون الغناء والعزف كما أكد خاصة مهدي الذي يملك قدرات صوتية كبيرة و كلهم تخرجوا من الجامعة تقريبا أو ليس « ابن الفأر يأتي حفار « كما قال مبتسما . وعن الساحة الفنية حاليا يقول على الرغم مما يشوبها إلا أن فيها أصوات جميلة تحتاج إلى خبرة ومرافقة لأن الفن ليس ملكا لأحد ولا حكرا على فئة دون غيرها بل في حاجة إلى قائد و هذا ما جعله يطالب الدولة بالإهتمام بدراسة الفن لأنه روح الشعب و شعب بدون ثقافة ليس له روح ولا ذاكرة . و يعترف بأن ما تقوم به وزيرة الثقافة حرك الركود الذي يعيشه الفن و ذلك بالمهرجانات التي أعادت الكثير إلى الواجهة و لكن ذلك ليس كافيا و تحتاج إلى دفع أقوى. رحماني صالح الذي عمل في الديوان الوطني لتوزيع المواد الغذائية منذ نشأتها سنة 1963 و تقاعد منه سنة 1997 برتبة مدير لم يعش الفراغ كما قال بعد تقاعده وانخرط في البحث و التنقيب في مجال تاريخ المالوف و الفن الأندلسي في قسنطينة و الجزائر يقتفي أثره من إسبانيا إلى الجزائر لأنه يؤمن أن العلم و الثقافة هما الروح التي يرتكز عليهما بناء الدولة و هو بصدد تأليف كتاب في هذا المجال منذ حوالي 20 سنة يشرف على طي آخر صفحاته بطريقة علمية موثقة و هذا ما جعل عمر إنتاجه يمتد جراء اعتماده على وثائق الأرشيف الفرنسي و المراكز الثقافية، لكون فرنسا كما قال أخرجت الذاكرة الجزائرية مع مغادرتها البلاد ، إضافة إلي أن الفن بحر لا شواطئ له من الصعب السيطرة على أمواجه . وأنه في فرنسا وجد كتبا و أرشيفا يتحدث عن الشعراء و الفن في الجزائر بالتفصيل. و أسر لنا بأنه رفض تنظيم حفلات هناك في العلب الليلية على الرغم من العروض و هذا بسبب واجب التحفظ باعتباره مسئولا سابقا و أن نفسه الأبية ترفض ذلك و لكنه ينشط بعض السهرات في أعراس بإلحاح من الأحباب استحياء وفي نطاق جد ضيق . و بعد تقاعده وبالموازاة مع البحث والتأليف كتب الكثير من الأغاني ولحنها ولكنها بقيت حبيسة الأدراج لأن المناخ غير مناسب لنشرها كما قال ، والقائمون حسبه على الفن في قسنطينة لا علاقة لهم به لأن الفنان في الجزائر يحتاج إلي دعم واهتمام جراء كلفة ذلك الباهظة في غياب ناشرين وموزعين محترفين بل صناعة نجوم. رحماني صالح يرفض أن يعامل الفنان دون احترام وهو ما جعله يرفض عرضا تقدمت به مديرية الثقافة منذ حوالي 4 سنوات أين وجد اسمه مبرمجا في حفل في إحدى المناسبات دون علمه أو الاتفاق معه مسبقا فذهب إلى المسئول واحتج على هذه المعاملة وطلب تفسيرات حول سبب وضع اسمه في قائمة دون عقد أو شروط ومنذ ذلك لم يعد اسمه متداولا في تنشيط حفلات المناسبات واعتبر ذلك إهانة له. وقال أن آخر حفل رسمي نشطه وقاد جوقته الذي تم فيه تكريم الحاج محمد الطاهر في المسرح الجهوي في قسنطينة منذ ثلاث سنوات بطلب من المغفور له الدكتور بن قادري حسين رئيس جمعية «صرخة» وكان ذلك آخر نشاط شارك فيه،على الرغم من أنه يضع نفسه في خدمة الفن ولكن مع صون كرامة الفنان في المعاملة ويرفض طرق الأبواب من أجل الفوز بتنشيط حفل أو إحياء مناسبة. أمله الوحيد أن يحافظ القائمون على الثقافة على التراث الموروث للأجيال القادمة خدمة وحفاظا على الذاكرة الوطنية. تعلمت من شيوخ أمثال بن جلول و بالبجاوي و لعموشي كما تحدث لنا عن علاقته بالمالوف والفن الأندلسي الذي أخذه عن أبيه الذي كانت له بيتا في فندق الشط في حي السويقة العتيق، فقال « تعلمنا الفن على يد شيوخه في الفنادق وكذا العزف علي الآلات من أمثال الخوجة بن جلول والعربي بالبجاوي وإبراهيم لعموشي لأن لكل فنان كانت له بيت في الفندق تنظم فيها الجلسات والسهرات بعد ساعات العمل والمشايخ جلهم صنايعية في الصباط أو الشبرلة أو النسيج والطرز وكذا البرنوس والقشبية والكثير من الحرف التي كانت تزخر بها أزقة المدينة العتيقة . وفي هذه الجلسات تجري مساء التدريبات على أنغام الشعبي والمالوف وكذا العزف على مختلف الآلات وكان الشريف مركوش والعربي قمة أبرزهم إلي جانب والدي الذي كان أول من أدخل آلة القانون إلى قسنطينة بعد أن جلبه من لبنان سنة 1943 التي قضى فيها الخدمة الإلزامية في بداية الخمسينيات وهذا ما جعل الفنادق في ذلك الوقت مراكز إشعاع فني وثقافي للحرف والفن».فأبوه كان عاملا بشركة السكة الحديد وفي المساء يفتح بيته للفن والسهر لأنه كان يتخذ الفن هواية ويمنعه من العزف والتدرب قبل مراجعة الدروس وذلك سنة 1952 التي انخرط فيها في جمعية «ألف ليلة وليلة» المسرحية والتي كانت تسمي المزهر القسنطيني. ويضيف بأنهم كانوا يسهرون كذلك في البيت مع الأهل والجيران ويتدربون على العزف ، فوالدته كانت تحسن الضرب على الدربوكة . و برز لأول مرة سنة 1961 في معرض في وسط المدينة نظمت فيه مسابقة شارك فيها وفاز على الرغم من منافسة اليهود ومنهم ماسياس الذي وصفه بالصهيوني والذي مر في نفس المسابقة بعد إلحاح من أصدقائه حيث نال الجائزة الأولى بأغنية»بالله يا ابن الورشان»وكان يعزف على البيانو وأخوه على الدربوكة ومنها كانت الانطلاقة بتكوين أول فرقة موسيقية مع مولود بهلول كمال فلاح وآخرون تحت لواء شبيبة جبهة التحرير الوطني. أما أول دخول للإذاعة والتلفزيون فكان مع الشريف زروال مع النشاط في الأعراس خاصة ، وبقي على نفس المنوال إلى غاية أن توارى عن الأنظار بعد وفاة أخيه. وهو يطالب اليوم بالاهتمام بهذه الشريحة وتكريمها قبل فوات الأوان لأن معظمهم يعاني أمراضا خطيرة في صمت دون أن يلتفت إليهم أحد. مشيرا إلى حالة الفنان العيد فنيخ الذي لم يغادر بيته منذ زمن طويل ، وهو يعاني في صمت بعد إصابته بمرض أثر على حباله الصوتية ، لأنه غير مؤمن لدى صندوق الضمان الإجتماعي، وكان يعيش من الفن وهو اليوم كما قال متأثرا في حاجة ماسة إلى لفتة تكريم والوقوف إلى جانبه من طرف القائمين على الثقافة ومن كان يطربهم ويحي فلاتهم. النصر ستكون أول من يطلع على كتابي حول المالوف وعن أحسن ذكرى عاشها قال إنها المهرجان الثاني للمالوف في الجزائر العاصمة التي كان ممثلا فيها لولاية قسنطينة رفقة الفرقاني وبن طبال زمن الهواري بومدين.وللفنان رؤيته فيما يقع في الوطن العربي من غليان أو ما يسمي بالربيع العربي قائلا “على الجزائريين أن يكونوا إخوة مثل ما كانوا خلال الثورة “ويروي أنه في سنة 1955 في أواخر شهر أوت استقبلت البيوت بحي الربعين شريف و السويقة وسط المدينة القديمة العائلات الفارة من المجزرة التي اقترفها الاستعمار في حق سكان عين عبيد ، منهم أسرة سردوك التي استقبلوها في بيتهم و بقيت معهم وسعى والده لحصول إبنهم البكر على منصب عمل في مؤسسة النقل بالسكك الحديد ، وبقي فيها إلي حين تقاعده ،وتقاسمت العائلات القسنطينية اللقمة مع الفارين بجلدهم وآوتهم وتكفلت بهم إلى أن مرت الأزمة . رحماني صالح ودعنا وهو يقول أنا في خدمة الفن مع حفظ كرامته وأن كتابه سوف يرى النور قريبا وستكون جريدة النصر أول من يطلع عليه.