ياسين سليماني تغلغلت الموسيقى في مختلف الفعاليات التي يقوم بها الإنسان في كل الأوقات، فهي لغة تحاكي مشاعره وتتواصل مع حياته اليومية، هي معه في مهرجانات الفرح ومناسبات الحزن وطقوسه الدينية وفي تعليم الأطفال وصولا إلى العلاج بالموسيقى، ولقد اعتبر أفلاطون الموسيقى أحد المحركات الرئيسية السامية للبشر، ومن خلالها عرف العالم النظام وتحقق له التوازن. ووفقا لنظرية أفلاطون نجد أنّ الموسيقى قد خدمت البشرية في تحقيق التوحيد بين أحاسيس البشر ومختلف عناصر الحياة في المجتمع الواحد وبين المجتمعات المختلفة، وتمكنت من التعبير عن الفرد وعن الجماعة في تنسيق ووحدة وليس النشاط المسرحي بمنأى عن هذا التغلغل، إذ يتفاعل العنصر الموسيقي مع العرض المسرحي كمفردة أساسية من المفردات التي ينتهي بها العرض كتوليفة متكاملة تقدم أمام الجمهور وتؤثر فيه. فقد جعلت القيمة الظاهرة في الموسيقى وتأثيرها الواضح في حياة الإنسان الفنان المسرحي منذ ظهور المسرح ملزما باستخدامها كواحدة من مفردات العرض المسرحي التي تتكامل مع التمثيل والحوار والسينوغرافيا وغيرها لتشكل وحدة موحدة هي المسرحية المنظورة على الخشبة. ظهر هذا الارتباط في مختلف أنواع المسرح تراجيديا أو كوميديا وحتى المليودراما تجسيدا لمراعاة العدالة ومكافأة الفضيلة ومعاقبة الرذيلة ومع النهايات السعيدة، فمنذ المسرح الإغريقي الذي ارتبط بالموسيقى والأناشيد والرقصات الجماعية لإحياء الطقوس، والمسرح الروماني الذي احتفى بالموسيقى والأداء الراقص واتجه إلى المرح والترفيه والإمتاع إذ نجد مسرحيات سنيكا وكتّاب التراجيديا في عهده استخدموا الموسيقى وغناء الجوقة محاكاة للإغريق. كما كان الحال ذاته في مسرحيات بلاوتس التي زخرت بكم كبير من الغناء والرقص التي حاكى بها الكوميديات اليونانية التي كتب على منوالها يبدو من هذا أنّ الموسيقى لازمت المسرح، وقد بقيت ملازمة له في العصور الوسطى أيضا، هذا النوع من المسرحيات متحدر من صلب الدين وطقوس العبادة، فهي تمثّل الأحداث الدينية التي وردت في الكتب المقدسة من خلال التراتيل والأناشيد بما يضاعف من شعور التقوى في المؤمنين،ففي الفصح كانت تمثّل مشاهد الآلام التي عانها المسيح وكان هذا شائعا في القرنين الحدي عشر والثاني عشر أمّا في القرنين التاليين فقد ظهرت مسرحيات العجائب وهي على الرغم من أنها مستمدة من القصص الديني إلاّ أنها خرجت إلى الأسطورة والتاريخ الإنساني تقوم على الخوارق إذ يتدخل فيها القديسون أو العذراء ومن ذلك أخذت اسم العجائب. في القرن الخامس عشر ظهرت مسرحيات الأسرار، والتي كان يعدّها الإقطاعيون ورجال الإكليروس وأفراد الشعب والتي كانت تعتبر من أعمال التقوى، ولم يكن الممثلون يتورعون عن تمثيل الجنة والله والأبالسة وكان للموسيقى المرفقة بالإنشاد دور كبير في الإثارة والشعور بالتفخيم. وظف شكسبير الغناء في مسرحياته، ويبدو هذا جليا في غناء ديدمونة في نهايات مسرحية «عطيل» أو في مشهد جنون أوفيليا في «هاملت»، كما أنه استعان بالموسيقى لدعم الحالات الشعورية كما جاء في أثناء نعاس الملك لير أو في طقوس السحر والعرافين اهتم فاغنر في العصر الحديث بتوحيد الفنون وانطلق من بنية المسرح الإغريقي الذي يراه أنموذجا رائعا وصارت الموسيقى والغناء لديه تشكلان عصب الحياة في العرض المسرحي كما في «رباعية الخاتم» ويقول في هذا الباب: «الكلمة ليست سوى وسيلة لنقل الأفكار والاتصال بالناس، إلاّ أنّ تأثيرها لا يكمل إلاّ بموسيقية الصوت البشري وبالنظرة وبالإشارة حتى تكون لها إمكانية نقل المضمون الفكري والحسي وحتى تؤدي غرضها بتكامل وفاعلية وثراء». هكذا أصبحت الموسيقى والغناء ملازمة للمسرح بشكل دقيق بل صار بعض الفنانين يؤلف الموسيقى والغناء بنفسه لمسرحياته مثلما برز عند برتولد بريشت الذي رأى أنّ إدخال الموسيقى إلى الدراما قد أحدث انقلابا في الأشكال التقليدية بالنسبة للمسرح الشرقي، وفي اليابان بالتحديد، بصرف النظر عن طبيعة الفروق الجوهرية التي تفصل بينه وبين المسرح الغربي فالحقيقة -كما يرى بعض الباحثين -أننا عندما نحاول الفصل ولو نظريا ما بين المسرح الدرامي وفنون التعبير الحركي والرقص والغناء فإننا نتبع في هذا عادة شائعة وخطأ متداولا انتقلا إلينا فيما نقلناه عن الأوروبيين من طرائق ومناهج نقدية، وهو تمييز غريب على الفنان الشرقي فالقاعدة التي يستند إليها فنان المسرح الشرقي تتعلق بتلك الصورة القديمة المركّبة للمسرح بمعناه الشامل أي فن الصورة الإيقاعية المتضمنة الكلمة والحركة والموسيقى في وحدة واحدة. كغيرها من المسرحيات ظهرت المسرحية العربية ممتزجة بالموسيقى، بل لقد «نشأ المسرح العربي في إطار الموسيقى» بحسب رأي ألفريد فرج. فقد عرض مارون النقاش في لبنان عمله الأول «البخيل» عام 1847 وتحدث للجمهور قبل بداية المسرحية بحديث يبيّن فيه إلى جانب قيمة المسرح سبب اختياره للمسرحية الغنائية وذكر أنها «ألذ وأشهى وأبهج وأبهى» لم يستقر ألفريد فرج على مصطلح واحد، فهو يذكر المسرحية الغنائية تارة و «الأوبرا» تارة ثانية ثم «الغناء المسرحي» كمترادفات فنية، لكنه في الوقت ذاته يؤكد في المقال نفسه أنّ هذا النوع من المسرح قد انتقل من النقّاش إلى أبي خليل القباني في دمشق ابتداء من 1878 حتى نهاية القرن التاسع عشر بالقاهرة ثم ظهر سلامة حجازي الذي جعل المسرح الغنائي قمّة الفن في مصر من 1905 إلى 1917 حيث «خطف القلوب بالغناء في روايات مصرية وروايات أجنبية مقتبسة فغنّى «صلاح الدين الأيوبي» و»صدق الإخاء» و»شهداء الغرام» ) روميو وجولييت( إلى جانب ريبرتوار مارون النقاش وأبي خليل القباني وقد برزت كوكبة من المؤلفين الموسيقيين بعد وفاة سلامة حجازي على رأسهم سيد درويش وكامل الخلعي وزكريا أحمد وأحمد صدقي واصلت تقاليد المسرح الغنائي العربي، غير أنّ هذا المسرح انقطع مع الأزمة العالمية 1929 التي تسببت في كساد المسارح في مصر ومادام المسرح الغنائي باهظ النفقات فقد كان أول ما أصيب بالأزمة من ألوان المسرح فانحسر موجُهُ.