استيقظت فومبيطا على هول ما جرى وذلك عندما استجمعت نورة زوجة المدعو الحاج بوبطانة شجاعتها وقوتها وتوجهت إلى مركز الشرطة واعترفت بكل شيء، انتقل المفتش فلاحي على رأس عدد كبير من رجال الأمن الذين انتقلوا إلى فومبيطا على متن عرباتهم الزرقاء المخيفة وحاصروا منزل المدعو الحاج بوبطانة الذي رفض الاستسلام، خرج الجيران، وتجمع الأطفال في الشارع·· كانت نورة في سيارة بيضاء تجلس في المؤخرة وهي تتابع ذلك المشهد المثير، صعد بعض رجال الأمن المسلحين إلى السطح، بينما راح المفتش يحث المدعو الحاج بوبطانة أن يستسلم، لكن هذا الأخير هدد الجميع بأن يطلق الرصاص على كل من يجرؤ على اقتحام المنزل، كنت رفقة شير الذي كان مفزوعا عندما دخل البوليس إلى بيتهم وأخرجوا بوحانة من القبو الذي كانت مخبأة فيه، واقتادوا والدته إلى محافظة الشرطة للاستنطاق·· أطلق المدعو الحاج بوبطانة عدة رصاصات عندما داهموه، ولقد جرح بعضهم، وعندما اقتربوا منه أطلق المدعو بوبطانة رصاصة على رأسه، اشتد الهلع والصراخ، وأخرجوه مضرجا بدمه، وضعوه في سيارة إسعاف واتجهت به إلى المستشفى وهي تولول، في المساء أطلقوا سراح والدة شير الذي قضى ليلته في منزلنا، وأدخلوا نورة السجن لتقضي فيه سنوات، لم يمت المدعو الحاج بوبطانة حينها، لقد ظل في غيبوبة لشهور طويلة، وذات صباح باكر رحل المدعو الحاج بوبطانة إلى الأبد عن فومبيطا، أما بوحانة فلقد نقلوها إلى مستشفى الأمراض العقلية بسيدي الشحمي، ضواحي مدينة وهران، ولم نعد نسمع عنها شيئا·· حدث ذلك في عام الحملة، عام الفيضان الكبير الذي اكتسح مدينة سيدي بلعباس من العام .1967 كان خالي جلول، وخالي محمد يسكنان في طريق وهران، وسط المدينة قرب الجسر الذي يمر من تحته وادي ماكرة، ولقد أخذ الفيضان كل الدراجات التي كان يبيعها، أسقط الماء الجدار وجرف كل شيء، الأبقار والماعز والكلاب والقطط، وأيضا الأطفال والرجال والنساء·· نقل خالي جلول وخالي محمد عائلاتهما إلى بيتنا بفومبيطا·· لم نعد نذهب إلى المدرسة، وانقطع التيار الكهربائي لأيام طويلة·· وفي تلك الأيام اكتشفت فومبيطا وكل المدينة البطل المغوار، لكن الغريب الأطوار المدعو بحلاط·· كان فارع القامة، ذو شعر أكرد، وأنف شبه مفلطح وبنية متماسكة وقوية، وكان يشرب الخمر كثيرا، ومجنون برغبة نكاح الأطفال الوسيمين··· وبرغم ما كان شذوذه يلقي بالرعب والذعر في قلوبنا، نحن الأطفال الصغار، وبالاشمئزاز عند الكبار، فلقد كان بحلاط يحظى بالحب والإعجاب من طرف الجميع·· كانت شهرته كبيرة، لم يكن من فومبيطا، فلقد كان يسكن بحي فيلاج الريح، وهو حي شعبي فيه الكثير من المجانين والأبطال المغمورين، والحكايات العجيبة··· لقد كان بحلاط عواما كبيرا، وهذا ما شفع له عند الكثيرين، لقد لجأ إليه الناس يوم الفيضان الكبير وبالفعل أنقذ كثيرا من الأطفال والنساء، بل وحتى الرجال··! كان يغطس كالعفريت في أعماق الوادي الحامل والغاضب بدون قرعة الأوكسجين، كان أقوى وأبرع من رجال الحماية المدنية·· لم يتزوج بحلاط في حياته قط، ولم يلمس امرأة، كان يحب الأطفال والشباب الوسيمين·· سنوات طويلة من بعد، كنت أراه يمشي وحيدا، وهو يحمل زجاجة كحول بيده، لا ينظر ولا يكلم أحدا، بينما كل المدينة تنظر إليه بصمت·· لقد اختفت تلك الرغبة الجنسية التي كانت تحركه تجاه الأطفال من عينيه، ضعف بصره، ونحل جسمه، وخانته السنوات التي جعلت منه مجرد هيكل، أو شبح يجول وحيدا في شوارع المدينة التي راحت تتبدل وتتحول في غفلة من أبنائها وبناتها بشكل مضطرد ومتسارع·· ومرة أيضا، وبعد سنوات طويلة رأيت نورة في حي فومبيطا تمشي لوحدها بعد أن باعت منزلها وأجرت غرفة حقيرة بأحد المنازل المهترئة الواقعة جنوب حي فومبيطا، لم أجرأ على الاقتراب منها·· كانت تمشي وحيدة وكأنها غريبة وفدت لتوها على حي لا تعرفه ولا يعرفها·· في ذلك العام، عام الفيضان، حزن أبي كثيرا·· بكى كطفل صغير·· وكانت هي المرة الأولى التي أرى فيها أبي يبكي كطفل·· سمعته يقول لأمي وخالتي رزيقة، إن اليهود احتلوا فلسطين·· ولم أكن أعرف حينها شيئا عن فلسطين·· كنت أعتقد أنها تقع غير بعيد عن فومبيطا·· كنت في الابتدائي·· ويومها، قال لي شير لقد دخل اليهود فلسطين، وغدا سيدخلون الجزائر·· سألت ''من هم اليهود؟!''·· قال لي شير ''هم كالاستعمار··'' وفهمت أننا سندخل الحرب التي استشهد فيها والد شير·· وأن والدي هو الآخر سيستشهد، وأصبح مثل شير، ابن شهيد·· في ذلك الصباح أخرجونا إلى باحة المدرسة، ودق الجرس مرتين·· وقف معلم العربية المصري الأستاذ نبيه·· وراح يتكلم عن فلسطين، وعن الحرب·· وعن أشياء أخرى لم أكن أعرفها في ذلك الوقت مثل العروبة، الجهاد، النضال، الوحدة، الأمة العربية وهلم جرا·· وفي الأخير، عندما انتهى الأستاذ من خطبته، تفرقنا في الساحة، ورحنا نلعب بمرح وسرور لعبة الحرب··· وعندما دخلت إلى البيت، كان أبي مريضا في الفراش، بينما كانت أمي تضع العجين على الطاجين، وعندئذ قلت لها·· ''أمي سأذهب إلى الحرب، وأقاتل اليهود·· أنا وشير سنذهب إلى فلسطين، ونقاتل الاستعمار··'' نظرت أمي إليّ مليا، ثم قالت ''انهض من أمامي، وكف عن الثرثرة···''·